حادث وحديث: في غيابات رجال التعليم لمّا يصبح التعليم بالرؤية لا بالحساب

لمّا كنت أدرس في الكيباك، في أول التسعينات، كان ابني محمّد وابنتي خديجة يدرسان في الابتدائي.

في بداية السنة الدراسيّة، حصل اجتماع للأولياء.
كنت وزوجتي حاضرين. في ذاك اللقاء، قال المدير: «ستضاف هذه السنة ثلاث ساعات رياضيات وساعة للقراءة وسوف تحذف ساعات من موادّ أخرى». علّل المدير الاجراء بما كان تمّ في الوزارة من مقارنات مع ما كان يدرّس في اليابان وألمانيا وبلدان أخرى. قال المدير: «في عالم هو بمثابة قرية، يجب أن نعدّ الصبية في الكيباك على شاكلة ما هو حاصل في الدنيا... غدا، في السوق، يجب أن يكون لشبابنا نفس القدرات».

ثم كان الحديث عن روزنامة السنة الدراسيّة ومدّنا المدير بجدول فيه ما سوف يكون من أيّام دراسيّة ومن أيّام عطل... طوال تلك السنة، طبقت الرزنامة كاملة ولم يتغيّب من المدرّسين أحد. يوم واحد... في الجامعة أيضا، لا يتغيّب الأساتذة عن الدروس أبدا ولا الطلبة. في الكيباك، قد ينزل الثلج في الأرض أوزارا ويضرب البرد الراس والعظام، لن يتغيّب أحد وترى الكلّ في الموعد، في مكانه...

هذه هي الكيباك التي كانت في أوائل القرن الماضي بلدا فقيرا. هذه هي كندا ولا تملك كندا تاريخا مجيدا ولا دينا حنيفا ولا ثلاثة آلاف سنة «حضارة»... أين نحن اليوم من كندا؟ كلّ شعبنا، شيبا وشبابا، يبتغي العيش فيها. حلمه الهجرة إليها... أحد أصحابي، أرسل ابنته الحامل لتلد في الكيباك، حتى تنال ورضيعها الجنسيّة، حتّى يضمن لهما مستقبلا...
لماذا تأخّر التونسيّون، أصحاب المجد والحضارة، وتقدّم العالم؟ لماذا يهجّ البلاد أصحاب الكفاءات ويفرّ غرقا من لا شغل له ومن ضاقت به البلاد؟ لماذا أصبح العيش في تونس عسرا ونكدا؟ لماذا لا أدعو محمّد وخديجة الى العودة ونحيا معا كما كنّا نحيا منذ زمان؟ انتهت تونس. أهلك تونس أهلها. أفسد الحياة سياسيوها. تونس اليوم في مأزق، في خندق...

* * *
أعود الى الروزنامة الدراسيّة... في الكيباك، لا يتغيّب المعلّمون والأساتذة أبدا... في تونس، غيابات المدرّسين هي عادة على طول العامّ. يحصل الدرس عندنا بالرؤية. كلّ يوم هو ليلة شكّ. لا أحد ضامن. يجب أن تمشي الى القسم لترى إن حضر الأستاذ... انتشر الجهل في تونس. سكن الغيب الرؤوس. كل شيء اليوم بقضاء. تمشي الحياة بالرؤية. بالصدفة. في المستشفى، في الوزارات، في المدارس، في تونس الجوّيّة، لا شيء ثابت. لا نملك الزمان ولا المكان. كلّنا هباء...
قد يحضر المعلم ويكون الدرس وقد لا يحضر ويعود الصبية إلى الديار. في كلّ يوم، في كل حصّة، يعيد الصبية نفس السؤال: هل أتي المعلّم؟ هل ثمّة درس؟ في ظلّ هذا الشكّ الدائم، يحصل في رؤوس الدارسين تشويش وذبذبة وضياع. يفقدون التركيز وتمشي أنفسهم الى أشياء أخريات... مثل هذا التغيب المستمرّ، لا يحصل في المؤسسات الخاصة وفيها رقابة وجزاء. في القطاع العام، لا أحد ينظر ولا أحد يرى. لا ردع فيه ولا جزاء...

* * *
تجاوزت العطل المرضيّة في وزارة التعليم كل الحدود. كل سنة في تفاقم. حسب حاتم بن سالم وزير التربيّة، في السنة الدراسية الماضيّة، بلغت الغيابات المختلفة في الوزارة قرابة 2 مليون يوم عمل (بالضبط 1885 ألف يوما). لمتابعة هذه الغيابات والحدّ منها، دعا الوزير الى الزام المرضى بالاستظهار بوصفات المرض واثبات شراء الدواء. للوزير الحقّ في متابعة ما يجري من حضور ومن غيابات، من انتاج ومن افساد... في ما أرى، غاية الوزير محمودة ودعوته مشروعة. لا أرى عجبا أبدا في الاجراء. كل مريض مدعوّ الى إثبات ما ادّعى. لكن نقابة التعليم الثانوي لا تقبل الاجراء. ها هي تشتكي. ها هي تدعو إلى إلغاء المنشور لانّ فيه مسّا للرمزيّة، للمقام...
كنت أعتقد أنّ النقابات هي الحاميّة للبلاد، للقطاع العام. كنت أظنّ أن الاتّحاد هو المعنيّ الأوّل بسيرورة التعليم والصحّة والنقل وباقي القطاعات. هو الساهر على جودتها وبما تأتيه من انفاق ومن انتاج. ألم يبعث القطاع العامّ للأخذ بيد الفقراء؟ ليوفّر لأبناء الشعب التعليم الأفضل والعلاج الأرقى؟ كنت أعتقد أنّ النقابات هي التي سوف تضرب على أيدي من أراد العبث بالقطاع العامّ.

تعلم النقابات أنّ في التعليم العمومي اليوم سوءا وأدرانا. يعلم الاتحاد أن العامّة من الناس هم اليوم في حال يأس واستنفار، جلّهم ينظر الى التعليم الخاص، رغم ما فيه من تعثّر ومن إنفاق... ليت اتحاد الشغل يولي التعليم حقّ قدره ويعاضد الوزارة حتى تقطع أيدي المنتهزين والمفسدين للتعليم ولغيره من القطاعات...
لا يرى النقابيون ما أرى. أنا والاتّحاد في اختلاف. في ما أرى، همّ النقابات وغاياتهم هي الانتخابات وكيف كسب ودّ الناخبين وان كان الودّ على حساب القطاع العامّ، وان كان بالتخريب وبالخراب...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115