رسالة بمناسبة 13 أوت: المساواة للجميع أو البؤس المعمّم

بقلم:عبد الباسط بن حسن
رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان

تونس تحت حجاب ضوضاء مصمّة جديدة. أصوات رفض حادّة « لتقرير الحريات الفردية والمساواة» تعبّر عن سخطها ومعارضتها لما جاء في التقرير وتهّدد وتتوعّد. ها نحن مرّة أخرى نُحشر في زاوية كره الحريات الضيقة. زاوية تختلط فيها الآراء والمشاعر وتستدعى فيها شذرات من الدين والايديولوجيا والسياسة لتنذر بخطر ضياع «الهوية» والقيم ومستقبل المجتمع ككلّ إذا اعتمدت توصيات «التقرير».

إن إغراق «التقرير» في هذه الضوضاء من ردود الفعل العنيفة هو محاولة لانتزاع تاريخيتّه وتحويله من محاولة جديدة لإعادة قراءة علاقتنا الملتبسة بالحقوق والحريات، بكلّ ما فيها من إمكانات وحدود ، إلى وثيقة/مكيدة هدفها الوحيد شنّ الحرب على «ثوابت الأمة».
وإنّ هذه الضوضاء محاولة لإخراج التقرير من دائرة الاقتراح : اقتراح حلول لأزمة الحريات يمكن قراءتها نقديا ومناقشتها ووضعها في سياقات مسار الانتقال الديمقراطي.

وتمهد عملية إخراج «التقرير» العنيفة من دائرة فهم الناس وقدرتهم على تملّكها تاريخيا للنظر في امكانية تحويلها إلى قواعد مشتركة، إلى «قتلها» رمزيّا وبالتالي إلى مواصلة «قتل» تجارب الحريات كلمّا ظهرت في تاريخنا محاولات لوضع الحقوق والحريات في جوهر المطالبة بمجتمعات جديدة.
إن «تقرير الحريات الفردية والمساواة» لم يأت من فراغ تاريخي ولن يكون نهاية المطاف في مسيرة تونس الطويلة والصعبة نحو بناء منظومة حقوق إنسان تقطع مع منظومة الاستبداد بالسياسة والعقول والأجساد. فعديد الحقوق والحريات التي نصّ عليها «التقرير» بدأ التأسيس لها تدريجيا في التراث الفكري المدني والقانوني والسياسي منذ عقود. كما أن عددا آخر من الحقوق والحريات لن يتحقق الآن بل ستفتح أمامها أبواب التفكير والنقاش وستأتي أجيال أخرى لتحملها إلى أفق التحقق.

إذا لم كلّ هذه الضوضاء وهذا العنف في ردود الفعل على «التقرير»؟ ولم كلّ هذا الرعب من إمكانية تحويله إلى قاعدة قانونية ملزمة؟
إن التفسير الأعمق للأزمة الجديدة في تونس لا يكمن فقط في لائحة الحقوق التي يبشّر بها «التقرير» بل يتمحور حول مفهوم تتنزل في إطاره كل حقوق الإنسان ، هو المساواة.
لقد أعاد «التقرير» الصّراع بين المساواة والتمييز إلى واجهة الأحداث.

وهذا الصّراع لاتنفرد به تونس بل هو ظاهرة كونيّة يخترق حياة أغلب مجتمعات عصرنا وتتأثر به في كلّ المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
بل يمكن أن نردّ كلّ النزاعات والحروب وسوء الحوكمة والفساد والشعبوية والتطرف والعنف والأزمات المالية والاقتصادية إلى سبب أصلي وهو التمييز.

انه صراع بين مساواة تتأسّس على منظور دولة القانون والمواطنة ومنظومة حقوق الإنسان وتتغذّى بالحرياّت والمساواة بين جميع البشر وتعميم التعليم العمومي والمجاني والصحة والخدمات الأساسية والإدماج الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي المعمّم وبين تمييز يقوم على تعميق الفوارق بجميع أشكالها و ضرب لمبدأ المواطنة والاعتداء الصّارخ على دولة القانون وسعي محموم نحو المصلحة الفردية والفئوية المتوحشة.

إن للمساواة خطابها القائم على الكرامة وللتمييز خطاباته التي تتغذّى من جنون الهويات والشعبوية والتطرّف.

إن الاجابة عن هذا التوترّ الدّائم بين ثنائية المساواة والتمييز يتطلّب الخروج من «ثقافة» ردود الفعل العنيفة على كلّ محاولة طرح أسئلة على حاضرنا ومستقبلنا وصياغة ثقافة حضارية جديدة تعود إلى ما يؤسّس للكرامة ويصونها وذلك ببناء منظومات مستدامة لحقوق الإنسان وتفعيل دولة القانون والمساءلة السياسية والحوكمة الرشيدة والاستثمار في التعليم الجيد والصحة والثقافة والتنمية العادلة والمستدامة.

ان ولادة «الجديد» مخيفة ومرهقة لجسد اجتماعي وثقافي تعوّد على سلطة القديم ودأب على سجن مبادرات الحرية في زوايا الإنكار المعتمة فأضاع على أجيال عديدة امكانات التحرّر من «الخوف والفاقة».

عمل كبير ينتظرنا للقطع مع غربة الحقوق والحريات وإدماجها في حياتنا والخروج من وضع انفصام حضاري عجيب يطالب فيه الجميع بحرية الرأي والتعبير والفكر والعقيدة والعمل المدني والسياسي والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، ثم يسارع الجميع إلى التنكر لأداة التمتع بكلّ هذه الحقوق عند أول امتحان تاريخي جدّي.
لن يكتب لنا النجاح في الخروج من هذا الانفصام بدون الذهاب بسرعة إلى مجلس نواب الشعب لنضع أمامه القوانين التي تقطع مع إرث التمييز الثقيل. ولن يكتب لنا النجاح دون الكف عن التلاعب بالحقوق والحريات.
ولن يكتب لنا النجاح إذا لم نحوّل مفاهيم الحقوق والحريات إلى مشترك اجتماعي وأفق حضاري نرعاه بإيماننا بالمساواة للجميع.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115