يجب أن أجهد النفس حتّى أنالها. تكرّرت زياراتي. في كلّ زيارة ألقى أبواب الادارة مغلقة، ألقى تعلّات وأعذارا. لم أيأس. أنا حريص على استخراج الوثيقة ولسوف أعود غدا وبعد غد والأسبوع القادم وفي الأشهر الحلال والحرام...
تتابعت زياراتي. أصبحت واحدا من الادارة. أعرف الموظّفين بأسمائهم. أصبحت لي علاقات متّصلة بمن كان حاجبا أو هو حمّال ملفّات، كنت أحيّي الموظّفين واحدا واحدا وأسأل عن من كان متغيّبا. أجلس حذو الحاجب ساعة. أحكي له ما جدّ لي من أمر وما حصل في البلاد. يحكي لي ما أصابه من توعّك وما طرأ من حدث في الادارة. أنا اليوم واحد من الادارة. أنا وصل. أنا ملفّ في الادارة. لست وحيدا في هذا الحال. كلّ التونسيين تلقاهم النهار طوله في سعي، بين إدارة وإدارة. يوم القيامة، لمّا يسأل الانسان عمّا أتى من فعل وما له من موازين سوف يجيب الكثير من التونسيين أنّهم لم يفعلوا خيرا ولا شرّا. أنّ موازينهم أصفار. أنّهم قضّوا العمر في اروقة الادارة. يبحثون عن وثيقة. يسعون خلف ترخيص أو ابراء. في ما أرى، يقضّى التونسيون العمر ينتظرون في باحات الادارة. كلّنا أصبحنا أوراقا تبحث عن ختم وامضاء...
في تلك الزيارة، في ذاك اليوم السعيد، صادف أن التقيت برئيس المصلحة. كان باب مكتبه مفتوحا فدخلت خلسة من الكاتبة ومن العسس ووجدت نفسي فجأة، قبالته، معه، وجها لوجه. ها أنا الآن أمامه. ها أنا وهو في المكتب. وحيدان. لا شريك لنا غير وجه الله. أدّيت التحيّة اللائقة بالمقام. لم يردّ الجالس أمامي على تحيّتي. لعلّ صوتيّ كان خافتا؟ لعلّ في الرجل، رئيس المصلحة، صمما؟ كان الرجل غارقا في الأوراق. مكتبه يرزح تحت الأوراق. أمامه وعلى جانبيه وفوق المرافع ملفّات من كل الألوان. على يساره، هاتف أسود. على يمينه حاسوب. أمامه أقلام مبعثرة وأختام من كلّ الأحجام. خلفه، معلّقة على الجدار، آيات من ذكر الله ولوحة فيها اسماء الله الحسنى. خلف ظهره، صورة للرئيس المخلوع، بالألوان. على اليسار، سجّاد مبسوط وخفّ من جلد. أظنّ الرجل من هواة الصلاة. هو متّق والدليل ما فوق جبينه من بقعة سوداء.
٭٭٭
كان الرجل غارقا في ملفّ بين يديه. منغمسا. يتصفّح الأوراق، يقلّبها بتمعّن، باطمئنان... حتّى يسمعني وينتبه، أعدت تحيّتي بصوت أعلى ثمّ انطلقت أشرح قضيّتي. مبيّنا أنّي في حاجة مؤكّدة الى وثيقة مختومة من الجناب وأضفت قائلا: «يا سيّدي، قد طال انتظاري وتكرّرت زياراتي وعييت من المشي والمجيء، فهل تستجيب الإدارة لمطلب قدّمته منذ زمان؟» جلست على الكرسي أمامه وقد شدّني تعب وتدافعت في القلب دقّات. قدّمت له في الأثناء نفسي وذكرت له وظيفي: «أنا شيحة قحّة، أستاذ في التعليم العالي». كنت أقول هذا بصوت فيه ثقة وحماسة، راجيّا أن يلقى وظيفي لدى رئيس المصلحة سماعا وترحابا...
عادة، لمّا أذكر وظيفي وأقول بكلّ فخر ودون اعتزاز أنّي أستاذ التعليم العالي، غايتي هي أن ألقى لدى الطرف قبولا واحتراما. أنا يا سيّدي لست نكرة، من عامّة الناس. أنا يا سيّدي من الخواصّ. أنا أستاذ التعليم العالي. هذا وظيفي السامي فخذ بيدي وافتح لي الأبواب.
غالبا، عند الاداريين خاصّة وعند الشرطة بصفة أخصّ، لا يلقى وظيفي قبولا ولا سماعا. أن أكون أستاذ التعليم العالي فهذا شأني ولا يعني شأني أحدا. غالبا، لا أرى عند السامعين تأثيرا ولا أثرا. أن تكون أستاذا جامعيّا فهذا لا يعني شيئا. أظنّ أن الجامعة والجامعيين فقدوا ما كان لهم من رمزيّة وإشعاع. خفت نور الجامعيين منذ زمان. أصبح الأستاذ الجامعيّ وظيفا كبقيّة الوظائف. لا قيمة لأهل الوظائف في هذه البلاد. أصاب الناس منهم استياء. أفليس همّ الموظّفين كلّهم جميعا مال وترقيّات لا خدمة البلاد...؟ رغم ما آلت اليه الجامعة من تراجع وخذلان، كنت دوما أذكّر بوظيفي، اجتهد للرفع من المقام، راجيّا أن ألقى قبولا وترحابا. أنا اجتهدت ومن اجتهد ولم يصب...
أخيرا، رفع رئيس المصلحة رأسه. نظر فيّ. بحبح. على كرسيّه الوثير استوى. حكّ شاربيه مرّات. من تحت حاجبيه، نظر إليّ. ترنّح. استعدّ. قال وفي وجهه استنفار: «أنت شيحة قحّة؟» قلت: «نعم. أنا هو». قال: «أنت شيحة قحّة من يكتب في الجرائد؟» قلت: «نعم. هو أنا» قال وفي عينيه سؤال: «قرأت لك في جريدة المغرب عديد المقالات، لكن هناك مقال شدّ انتباهي ولم أتبيّن بالضبط فحواه... ها أنت هنا. هذه فرصة لأسألك عن المقال. ماذا تعني بالباب الحديدي؟ كنت قرأت المقال وتوقّفت طويلا أمام باب المدير وأقفاله. في ما أرى، أنت تعني شيئا معيّنا. في ما أرى، قصّتك تحمل غايات. أليس كذلك؟ أنا لي شرحي الشخصيّ لهذا الباب ولا أدري إن كان فهمي صوابا. قل لي إن كان فهمي صوابا. أنت ولا شكّ تعني أشياء بعينها لمّا أطنبت القول في الباب. هو باب ليس كالأبواب. هو باب حديدي كثير الأقفال. موصد طوال النهار. أليس كذلك؟ في الباب ولا شكّ ألغاز لا يدركها إلا أولي الألباب... قرأت القصّة كاملة. قرأتها بتأنّ. توقّفت عند الجمل والمفردات. ما قلته من الكلام فيه توريّة لها باطن وظاهر، أليس كذلك؟»
٭٭٭
كنت أستمع الى الرجل وما يقوله من تحليل ومن سؤال. دبّ في قلبيّ انشراح، قلت في نفسي: هذه فرصة مباركة. أظنّ أنّي سآخذ اليوم الوثيقة. أظنه سيمضي وأنتهي من العذاب. هل أتحصّل اليوم على الوثيقة؟ هو قرأ المقال وله أسئلة حول المقال. أظنّه أعجب بما كتبت من كلام... أمّا الباب الحديدي وما قلت فيه من بيان فأنا نسيت القصّة وما جاء فيها من أحداث. هو مقال قديم، جمعت فيه أحداثا مختلفات. أظنّني كتبته وقد شدّني قلق، في يوم صيف حارّ. أحيانا كثيرة، أكتب نصوصا ترّهات. لا لغز فيها ولا إشكال. أمشي بالكلام كما شاءت الصدف والأقدار. يحملني القلم وأحمله في سبل مختلفات، دون خطّة أو أهداف. حين أكتب، لا أرى لي مقصدا معيّنا ولا ثمّة غايات سابقات...
لا يهم ما كنت كتبت من ترّهات ولا ما كنت فيه يومها من أحوال. شدّ إلى المقال اهتمام رئيس المصلحة وهذا هو الهامّ. قلت في نفسي إنّها فرصتي. يجب أن أستغلّ الفرصة، عليّ أن أهادن القارئ، رئيس المصلحة. أن أرضيه فيرضى ويمدّني بما جئت من أجله مرارا. يجب أن أحاذيه. أشدّ رأسه. أمسك بيديه. أمشي معه في ما أدرك من فهم وأؤكّد ما تبيّن من غايات.
أكّدت للرجل فهمه وشكرت له ذكاءه وما كان أتاه من خيال وأضفت وفي قلبي بعض ريبة وبعض انشراح: «نعم، أنت محقّ سيّدي. أنت أصبت الصواب. وراء الباب الحديدي اشكاليات كبرى لا يفهمها الا من كان له حسّ مرهف وخيال. كما ارتأيت، كلّ القصّة، محورها الباب. هو العقدة ومن حوله تجري الأحداث وتتابع الاشكاليّات. أنا أشكر لك فهمك الحصيف وذكاؤك
الوقّاد...» بعد حديث طال وتمدّد وبعد أن أشبعته ورودا وأزهارا، أخذت وثيقتي وشكرت للرجل حرصه على قراءة ما كتبت من مقال. ها هي الوثيقة في يميني مختومة وممضاة. ها أنا أغادر الادارة مسرعا، فرحا بما كان بين يدي من وثيقة هامّة، مؤرّخة، ممضاة...
نسيت في الحين ما كان لي مع الادارة من تعب وعذاب. نسيت ما كنت أتيت من عديد الزيارات. نسيت العسس والحجّاب. أغلقت الملفّ. انتهت عندي الادارة. نسيت ما كان مع الادارة... الحمد لله أن كان للإنسان قدرة على النسيان. لولا النسيان لما تحمّل الانسان عسر الزمان، لما استطاع تجاوز عقبات الحياة. بالنسيان، يكون التطوّر ويتمّ التأقلم مع الظروف والأحوال. بالنسيان، نلغي ما فات، نفتح صفحات بيضاء. نتوكّل على الله، نعود الى الحياة. ننهض، نمشي الى الادارة. نبحث عن ترخيص وإبراء وأختام...