تلك التجارب كانت كلها صادرة عن بعض الأحزاب حاولت التقارب ضمن ائتلاف حزبي، سرعان ما انفكّ الرباط بينها بسبب الزعامتية، إذ أن رئيس كل حزب يسعى إلى أن يُصبح زعيم الائتلاف، أو بسبب محاولة هيمنة أحد الأحزاب على الأخرى.
التجربة الأخرى الوحيدة الشبيهة بهذا الاتحاد والتي لم تصدر عن الأحزاب هي تجربة «القطب الديمقراطي الحداثي» الذي أنشئ سنة 2011 بمبادرة من مستقلين، استعدادا لانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي. والفكرة التي دافعنا عنها آنذاك هي أن نتقدّم إلى هذه الانتخابات بقائمات مُوحّدة تضم عددا من المستقلّين والأحزاب التي لها تاريخ نضالي ورفضت لعب دور الأحزاب «الكارتونية» التي كانت مدعومة من السلطة قبل الثورة. وللتاريخ، فإن الأحزاب التي حاولنا إقناعها بالدخول في هذه التجربة هي حركة التجديد وحزب التكتّل والحزب الديمقراطي التقدّمي. لكن حزب التجديد هو الوحيد الذي قبل المشاركة في القطب، في حين رفض حزب التكتل الانخراط في التجربة للأسباب لم نفهمها إلا بعد الانتخابات عندما اتّضح أن له التزامات مع حركة النهضة للمشاركة في السلطة، تلك المشاركة التي أدّت إلى انهياره. أما الحزب الديمقراطي التقدّمي فقد خيّر دخول غمار الانتخابات بمفرده، ربّما لاعتقاده أنه قادر على الحصول على نتائج باهرة دون اللجوء إلى أي تحالف.
يرى بعضهم أن تجربة «القطب الديمقراطي الحداثي» كانت فاشلة نظرا لأن القطب لم يحصل إلا على خمسة مقاعد في المجلس. لكنها، حسب قراءتي الشخصية، كانت مفيدة، وبالتالي قابلة للتطوير. فالقطب بدأ بخمسة أعضاء في المجلس التأسيسي وانتهى بعشرة أعضاء في نهاية عهدته، وذلك بعد انضمام أعضاء آخرين له لما رأوه فيه من جدّية ونزاهة، ولما لاحظوه من انتهازية من الأحزاب التي نجحوا صلب قائماتها. كما أن القطب أظهر لمن رفضوا الانخراط فيه أن الأحزاب القريبة من بعضها لا مستقبل لها دون تحالف جدّي ونزيه. لذلك فإن القطب أسّس لتجربة رائدة قوامها أن التحالفات لا تنجح إن هي أتت من أحد الأحزاب بقدر النجاح الذي يمكن أن تحقّقه إذا أتت المبادرة من خارجها. وهو ما دفعنا إلى محاولة إعادة التجربة.
فالوضع الآن في تونس أشبه ما يكون بالوضع الذي كانت عليه البلاد إبان الثورة، أو بالوضع الذي ساد البلاد عندما انقضّت الترويكا على السلطة.
تمرّ تونس اليوم بوضع صعب اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. وضع يتّسم بالضبابية وبتعثّر واضح في المسار الديمقراطي، تعطّلت فيه الوحدة في حكومة الوحدة الوطنية، وتعطّل فيه الوفاق في وثيقة قرطاج. والأسباب معروفة. فتحالف الخطّين «المتوازيين»، الذي بدأ تكتيكيا ليُصبح تحالفا استراتيجيا، أفرغ الساحة السياسية من التنافس وأفقد الرأي العام وضوح الرؤية والثقة في السياسيين وفي مستقبل البلاد بعد أن انفردا بالسلطة وعجزا عن تخليص البلاد من أزماتها المتعددة، إن لم نقل بأنهما تسبّبا في تعميقها. وهو ما جعل أكثر من ثلاثة أرباع التونسيين، حسب آخر الإحصائيات، لا يرغبون في المشاركة في الانتخابات. والسبب في ذلك ليس قلّة الأحزاب، بل بالعكس، كثرتها.
وإذا استثنينا الأحزاب التي جُرّبت ففشلت وتلك المنحدرة منها، والأحزاب التي تسعى إلى فرض نظام حكم لا يستجيب إلى طبيعة الشعب التونسي المعتدل والوسطي، والأحزاب الغائبة عن المشهد السياسي، يبقى عدد من الأحزاب يتراوح بين 10 و15 حزبا، تجمع بينها خصال محل تقدير السواد الأعظم من الشعب التونسي وأعني الوطنية والتقدمية والديمقراطية والمدنية والحداثة. لكن المعضلة تكمن في تشتت هذه الأحزاب، ممّا يُقلل من حظوظ نجاحها ومن حظوظ انقاذ البلاد من التطرّف ومن المجهول.
جاءت المبادرة من شخصيْن مستقلّيْن، أنا وصديقي فتحي الجلاصي. وقد شعرنا بالخطر المحدق بالبلاد جرّاء الفراغ المفزع الذي تشهده الساحة السياسية. فتمّ الاتصال ب11حزبا نعتبرها مُمثّلة للوسطية التي تُميّز الشعب التونسي، والتي ينظر إليها عموم المواطنين بعين التقدير بالنظر إلى ما يُعرف عن مُسيّريها من صادق الوطنية.
فاستجابت الأحزاب، مشكورة، لنداء الوطن، مُتجاوزة مصالحها الضيّقة وطموحات زعمائها رغم مشروعيتها، ومُتجاوزة بالخصوص خلافاتها واختلافاتها.
قد يرى الملاحظون أن هذه الأحزاب يُمثّل بعضها التوجّه الليبرالي ويُمثّل البعض الآخر التوجّه الاجتماعي. لكن قبولها اليوم للتعاون معا يدلّ بما لا يدع مجالا للشك أن جميعها معتدل وأن القواسم المشتركة بينها، في هذه المرحلة بالذات، أقوى وأعمق ممّا تختلف فيه، وأعني بهذه القواسم المشتركة : الوطنية والديمقراطية والتقدمية والمدنية والحداثة.
هي إذن مبادرة مواطنية تجمع المستقلين الذين يُمثّلون الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي والمجتمع المدني الناشط بأهم الأحزاب الوسطية. وما الاسم الذي اخترناه إلى هذه المجموعة «الاتحاد المدني» إلا دليل على أنها تُحاول تمثيل المجتمع المدني بالخصوص، وعلى أنها تعمل من أجل مدنية الدولة من ناحية ثانية.
الهدف الأصلي لهذه المبادرة هو ملء الفراغ السياسي الذي أدخل الخوف واليأس في قلوب التونسيين الذين أُصيبوا بالاكتئاب وبالتشاؤم وبالاستقالة من الشأن العام، على أن يكون ملء الفراغ بما يُقنعهم ويُعيد لهم الثقة في المستقبل والرغبة في المشاركة المواطنية في إعادة بناء الدولة التي انهارت بفعل الظلامية والانتهازية وانعدام الكفاءة.
وما أن بدأ «الاتحاد المدني» الفتي يخطو خطواته الأولى حتى وجدنا أنفسنا أمام امتحان أول مفاجئ، وأعني الانتخابات البلدية.
أقول «مفاجئ» للاتحاد المدني، لكن الانتخابات البلدية لم تكن مفاجئة للأحزاب المنخرطة فيه، إذ كان العديد منها قد استعدّ لها بدرجات مُتفاوتة بصفة منفردة. وهو ما جعل الاتحاد لا يُجازف بالمشاركة في كل الدوائر بصفته تلك، وإنما تقتصر مشاركته على عدد رمزي من البلديات (48) مع ترك المجال للأحزاب التي استعدّت لهذه الانتخابات قبل تأسيس
الاتحاد لخوضها بصفة منفردة.
لم تكن النقاشات داخل الاتحاد، خلال الأشهر الأربعة الأولى من تأسيسه، بالسهولة التي كنّا نتمنّاها. ولقد حدث، من حين لآخر، أن عشنا محاولات من هنا وهناك لتقديم المصلحة الحزبية على مصلحة الاتحاد، تجاوزناها بما أمكن. وكانت النتيجة مُشجّعة إلى حدّ كبير. إذ علاوة عن القائمات التي تحمل رسميا اسم «الاتحاد المدني»، وصل عدد القائمات المترشحة، بين الأحزاب المنخرطة فيه والمستقلين القريبين منه، إلى حوالي 400 قائمة. وهو ما يفتح أمام جمهور المستقلين العريض آفاقا رحبة لاختيار ممثليهم في المجالس البلدية من بين القائمات التي تُمثّلهم وتمثّل طبيعتهم المدنية والحداثية والتقدّمية، وذلك بتجنّب مغامرة ترك شؤونهم بين أيدي المتطرّفين والانتهازيين، وخاصّة منهم من جُرّبوا ففشلوا. ولا يفوتني أن أُنبّه إلى وجود قائمات تدّعي أنها «مستقلّة» والحال أنها أُعدّت من قبل مُتطرّفين وفاسدين للتمويه.
ومهما تكن نتائج الانتخابات البلدية، فإن «الاتحاد المدني» سيزداد لحمة وشعورا بمسؤولية إنقاذ البلاد من الفوضى ومن الفساد، وبمسؤولية إعادة التفاؤل إلى التونسيين.
بقلم: منير الشرفي