انتهيت من المجتمع. أهاب الخروج إلى الشارع. أخاف لقاء الناس. أسأل العافيّة ولا شأن لي في ما يجري في الأرض من عجب ومن أحداث. في البيت، أقضي الليل والنهار.أسكن للراحة. أنتظر الساعة...
أنا أحيا وحيدا. غادر الأولاد البيت منذ زمان. يحيا محمّد وخديجة في غير هذه الأصقاع. ماذا عساهما يفعلان في هذه البلاد؟ لا حياة هنا ولا أفقا في الآفاق. انسدّ الأمل عند الناس. استوى عندهم الليل والنهار. منذ الثورة، ساء الحال. كثر العياط. عمّت الاضطرابات. لا أمل في قادم الأيّام. في تونس، ندرت فرص الحياة. كلّ الشباب من حولي والكهول أحيانا أراهم في سعى إلى الهجّ من البلاد. لا رجاء في هذه البلاد. كثر الهيج في تونس ولا أحد استطاع وضع حدّ للإضطرابات. ضاقت الأنفس. أصبح الكلّ في توتّر،في سوء حال. أصبح الكلّ ينتظر أن ينتهي الليل وقد طال الظلام. الكلّ ينظر، يتدبّر كيف الرحيل، كيف الهجّ من البلاد...
من حولي يقول لي أهلي وأصحابي: «انتبه يا رجل. لا تدع ابنيك إلى العود إلى الديار رغم ما في غربتهما من نكد ومعاناة. تونس كما تعلم هي اليوم في ضياع، تمشي من سواد إلى سواد... أنت محظوظ وابناك اليوم في كندا وكندا من أفضل البلدان...». أنا محظوظ يقول الناس. غريب أمر الناس. أنا اليوم وزوجتي وحيدان. نحيا في بيت لا حركة فيه ولا حياة. نوافذ مغلقة. أبواب موصده. سكون. رتابة... لست وحيدا في هذه الحال. الكثير من حولي هجّ أولادهم من البلاد. في كل عائلة، تسأل فتعلم أنّ الأبناء، من فتيان وبنات، غادروا منذ زمان. ذهبوا للتعلّم، للشغل، للبحث عن سبل حياة. أصبح الهجّ هو النجاة. أصبحت تونس لبنان...
تونس ليست لبنان. تأقلم اللبنانيون في المهجر وانتشروا في الأرض ولهم اليوم حضور وأثر في كلّ مكان. بقي التونسيون، في المهجر، على نفس الحال. لا قوّة لهم ولا مال. غادر التونسيون البلاد ولم يغادروا ما هم فيه من نظر ومن عادات. انكمشوا ولم تمسّهم حيرة ولا سؤال. ظلّوا على نفس السير، على نفس العقيدة، في نفس الصراط. انغلقوا ولم يتطوّروا ولم يأخذوا من الآخر المختلف قيما ولا فهما... في قريتي، في منزل كامل، زمن التعاضد، هجّ الكثير من البلاد. في فرنسا، اشتغلوا عديد السنوات وأنجبوا ذرّيّة كثيرة وكسبوا مالا. أثرى الكثير منهم لكن ظلّوا في نفس السبيل، لهم نفس الرؤى ونفس السلوكيّات. في الصيف، أنظرهم فأراهم يفعلون، يفكّرون كالدهماء، كالأجداد. لم يتغيّر المهاجرون رغم عيشهم في الغرب لعديد السنوات. أحيانا، ألقى عندهم محافظة. أحيانا،أرى فيهم غلوّا ومغالاة. حتّى يثبتوا ما لهم من خصوصيّات، تراهم في صدّ لكل جديد. يرفضون كلّ حداثة...
أنا اليوم متقاعد وقعودي في البيت محبط. مضرّ للحواسّ، للأعضاء. في القعود بعض فناء. في القعود موت بطيء للأنفس، للأرواح... أعلم هذا. أعلم أنّ الحياة حركة وصراع. أنّ الحياة سعي وجهاد. أعلم ما للأخر من أثر في الدفع، من فتح للأفاق. أعلم أيضا أن الإنسان استئناس وأنّ كيانه يكون في اللقاء. أفلا تتأسّس الذات بتفاعلها مع الذوات؟ لا نموّ للذّات الأحد. لا وجود لحيّ ابن يقظان. إنّما الحياة اجتماع. إنّما الإنسان جمع وجماع...
أنا متقاعد وقعودي في البيت وحيدا لا خير فيه بل هو غبن وخسران. يجب أن أفكّ عزلتي، أن ألتقي بالناسّ. أن أذهب إلى الناسّ.أبادلهم الرأي وأدرك ما كان فيهم من فهم ومن بيان. يجب أن أخرج إلى الشارع، أن أمشيّ إلى الأسواق، إلى المقابر، الى الأعراس، إلى كلّ البقاع علّيّ ألقى الناس وأرى ما يحملون من فكر مختلف ومن نظر طريف ومن أراء أخريات...
أنا مرتاب. فيّ حيرة وسؤال. هل في اللقاء حقّا فائدة؟ هل في الآخر نفع وإضافة؟ أنا في شكّ.أحيانا كثيرة، لا أرى في الآخر إلا رداءة. هوشرّ. همّه الربح وتحقيق مبتغاه... أنا في تردّد. يشدّني اليأس مرّة والأمل مرّات. مرّة أقول لنفسي لا ينفع اللقاء وهذا البشر حولي كلّه مكر وشيطان ومرّة أقول في اللقاء نفع وفائدة. أمّا البقاء وحيدا فهو، ولا شكّ، كسوف وفناء. أفليس الإنسان مؤانسة؟ يتأسّس بما له من صلات. يسمو بما له من جمع واجتماع...
ما من شكّ أنا في حاجة إلى الآخر. الآخر هو المرآة، هو من شكّل فيّ المعالم، من بنى نظري وحدّد ذاتي. لأكون، لأحيا يجب أن أتّصل، أن أربط العلاقات. بقدر اختلافي مع الآخر، في الرأي، في القيم، في المعتقدات، يكون النفع ويحصل في الذات تجاوز وفي النظر اتّساع. أمّا ذاك الذي وإيّاه أتقاسم الفكر والقيم فهو صدى لنفسي وهو لي بضاعة تعاد...يعاودني السؤال: هل يوجد آخر مختلف في هذه البلاد؟ أفلسنا جميعا من نفس الطين، نحمل نفس الفكر ونأتي نفس العبادات؟ انتهى ذاك الزمن لمّا كان التونسيّون والفرنسيّون واليهود وغيرهم من الناس يعيشون في اختلاف، في وفاق، جميعا، معا، في هذه البلاد. يومها كان اللقاء مع الآخر نافعا. يومها كان الجمع بين الناس رحمة للعباد...
ليت اليهود وغيرهم لم يفرّوا من البلاد. ليتهم ظلّوا بيننا حتّى نرى ما يأتون من سلوك ونسمع ما يقولون من كلام. ليتهم لم يغادروا البلاد حتّى نعيد النظر في أنفسنا، في ما نحمل من قيم ونتبيّن ما لنا من عادات ومن عاهات. تضعف مناعة الإنسان لمّا ينحسر عنده الاختلاف. الاختلاف في الدم كالاختلاف في الأفكار هو ثراء للناس وفيه حسن ونماء. خسرت تونس وفقدت المناعة لمّا هجرها اليهود والأجانب، لمّا أصبحت ملكا للتونسيين دون سواهم... ثم كان أن مسكت بالرقاب الوطنيّة والقوميّة فالإسلام فازداد الغلق وتقوقع الناس... يجب أن ألتقي بالآخر وإن كان من طينتي وإن كان لي مرآة...