باحثين كبيرين يشرفان على مركزين بحثيين متخصصين في الموضوع، أما زيارتي الأخيرة للعاصمة المجرية قبل أيام فقد خصصتها للقاء شخصيتين سياسيتين يمثلان جيلين مختلفين عايشا ولا يزالان التحولات السياسية الكبرى التي مر بها هذا البلد الأوربي الشرقي في طريقه إلى بناء نظام ديمقراطي واعد.
سؤال الدولة: علمانية أم دينية؟
لقد كان لزاما أن ألتقي السفير المجري في تونس السيد «زولطان جنتجيوجاي» قبل سفري إلى بودابست، وخلال حديثنا سألني الديبلوماسي المخضرم عن موقفي من «التوافق» بين حركتي النداء والنهضة، وعما إذا كان هذا التوافق لا يشكل معوقا للمسار الديمقراطي باعتبار التداول على السلطة آلية مهمة لتطوير الممارسة الديمقراطية، فكانت إجابتي على سؤاله كما يلي: إن النظر إلى التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي بالقياس على التجربة المجرية أو الأوربية الشرقية أو حتى التشيلية والجنوب أفريقية، ففي جميع هذه التجارب لم يكن مطلوبا من قادة التحول خاصة والنخب السياسية المشاركة في العملية عامة أن يجيبوا على سؤال طبيعة الدولة وما إذا كان المطلوب بناء دولة علمانية أو دولة مدنية؟
لم يكن الأمر مطروحا على المجريين أو البولنديين أو التشيك أو غيرهم من شعوب الدول المذكورة، لأن السؤال مجاب عليه عندهم منذ قرون فقد قررت المسيحية بفضل حسم حركتها الإصلاحية الانسحاب من الشأن السياسي والقبول بدولة علمانية، وهو أمر لم يحدث عندنا، فقد أمضى التونسيون ثلاث سنوات ليتوافقوا على حل «الدولة المدنية»، وما يزال هذا الحل يحتاج إلى توافق الفريقين لعشر سنوات بعده على الأقل حتى يثبت ويشتد عوده، وهو ما يزال إلى اليوم مهددا يتلقى الضربات من الجانبين تحت مبررات مختلفة، وبمساعدات اقليمية ودولية أحيانا.
أوجه للتشابه..التوافق والتحول الايديولوجي؟
تلتقي تجربة التحول الديمقراطي في المجر مع نظيرتها التونسية، رغم وقوع الأولى أكثر من عشرين عاما قبل الثانية (تحديدا سنة 1989)، في أوجه تشابه عديدة، لعل أهمها الحفاظ على الطابع المدني السلمي، فقد تميزت الانتفاضة المجرية على الحكم الشيوعي (1947 - 1990) قياسا بنظيراتها في أوربا الوسطى والشرقية بتحقيق أهدافها دون إراقة قطرة دم واحدة، وكانت آليتها الرئيسية في حل المشاكل المعقدة المطروحة عليها هي «التوافق»، فقد توافق الشيوعيون مع معارضيهم لإجراء التحولات الدستورية والقانونية المستوجبة، كما توافقت القوى السياسية على إجراء الانتخابات الديمقراطية الواحدة تلو الأخرى، ويحكم حزب «فيداس» الوطني المحافظ اليوم بالتوافق مع «حزب الشعب الديمقراطي المسيحي» في ائتلاف متواصل منذ 2010، لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت بأوربا وإخراج البلاد من الوضعية الحرجة التي جابهتها خلال حكم الاشتراكيين الديمقراطيين من 1994 إلى 2010 (فيما عدا أربع سنوات تخللتها حكم خلالها حزب فيداس البلاد من 1998 إلى 2002).
وكما نرى فإن التوافق في تجارب التحول الديمقراطي، لا يعتبر أمرا شاذا كما يحاول البعض تصويره، بل كانت هذه الخاصية أمرا مميزا لأهم التجارب التي نجح فيها الانتقال، كما هو شأن المجر، ودول أخرى كتشيلي أين توافقت القوى الديمقراطية مع نظام بيونيشيه، وجنوب أفريقيا التي توافق فيها السود بقيادة الزعيم الخالد نيلسون مانديلا مع نظام الابرتهايد أو التمييز العنصري، فتوافق القوى العلمانية والإسلامية في تونس على حكم البلاد ما بعد الدستور، وتوافق القوى السياسية على دستور الجمهورية الثانية ما قبل المصادقة عليه، هو ما جنب تونس الفتن ما ظهر منها وما بطن، وهو الذي يفسر تميز التجربة التونسية الناجحة عن التجارب الفاشلة التي آلت إليها ما يعرف بدول الربيع العربي.
بقيت الإشارة إلى أن من أبرز أوجه الشبه بين التجربتين المجرية والتونسية كما لاحظت، قدرة القوى السياسية الرئيسية على القيام بالمراجعات والتحولات الايديولوجية الضرورية خدمة للمشروع الديمقراطي، فقد تحول أغلبية الشيوعيين المجريين منذ أواخر الثمانينيات وبفعل حراك الإصلاحيين إلى «الاشتراكية الديمقراطية»، فضلا عن تحول حزب «فيداس» (الاتحاد المدني المجري) منذ أواسط التسعينيات من حزب ليبرالي إلى حزب وطني محافظ، وقد ساهم كل ذلك في تجديد الطبقة السياسية المجرية بالكامل في غضون عشر سنوات بعد الثورة المجرية المدنية السلمية، واعتقادي أن الطبقة السياسية التونسية في طريقها إلى التجدد الكامل مع استكمال المراجعات الايديولوجية للقوى السياسية الرئيسية في البلاد، الوطنية الدستورية والإسلامية واليسارية، وستقود تونس ابتداء من الانتخابات القادمة ربما، طبقة سياسية جديدة تشترك مع بعضها في قاسم الديمقراطية وتنشغل بهموم تنموية اقتصادية واجتماعية لا ايديولوجية، وسيكون ذلك علامة من علامات نجاح الانتقال واستكماله لأبرز محطاته.
الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة..
تشير استطلاعات الرأي في المجر، بحسب ما أخبرني به قادة الحزب الحاكم الذين التقيتهم، من بينهم نائب الرئيس جلياس جيرجلي ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان جولت نيميث، فإن التحالف الحاكم المهيمن على ثلثي أعضاء البرلمان المتكون من حزبي «فيداس» الوطني والشعب الديمقراطي المسيحي منذ 2010، مرشح للفوز بانتخابات العام القادم مجددا، وهو أمر يردونه إلى النجاحات المحققة في المجال الاقتصادي خلال السنوات الثماني الماضية، وهي نجاحات مردها الإصلاحات المؤلمة التي أقدم على إجرائها دون تردد الزعيم المجري رئيس الحكومة فيكتور أوربان.
ويعد أوربان أحد قادة التحول الديمقراطي المجري، فقد كان سنة 1989 زعيم الحركة الطلابية المطالبة بالتغيير وإنهاء النظام الشيوعي، وكان سنه حينها لا يتجاوز 26 عاما، وتمكن عندما كان عمره 35 عاما من أن يصبح أصغر رئيس وزراء في تاريخ المجر وأوربا، لكن تجربته الأولى لم تعمر سوى أربع سنوات، عاد بعدها للمعارضة وإعادة بناء حزبه، حيث أشرف بنفسه على تحويله من حركة ليبرالية موالية للغرب إلى حزب وطني/قومي محافظ، ذd ميول شعبوية أحيانا، إلى درجة يتهمه فيها البعض بالسلطوية.
ختاما، لا بد من القول بأنه وعلى الرغم من مرور ما يقارب الثلاثة عقود على انطلاق شرارة التحول الديمقراطي في المجر، فإن بعض النخب الثقافية والعلمية وكذا قطاعات من المواطنين، خصوصا الشباب منهم، ما يزالون يشككون في مسار هذا التحول كما هو شأن التونسيين، ولا يتردد بعضهم في القول بأن النظام الديمقراطي لم يستقر بعد، ويشير كثير منهم بامتعاض كبير إلى اختراق الفساد شرايين الطبقة السياسية، فالفساد وفقدان الثقة في الساسة هما ما يؤرقان المواطن المجري كما المواطن التونسي.
بقلم: خالد شوكات (وزير سابق ومدير مركز نداء تونس للدراسات)