منبــر: حرب طروادة التي لن تقع

1 - الثورة التونسية هي من تلك الثورات التي تحصل على غير منوال سابق.حملتها اجيال حلما ودفعت ثمنها دمعا و عرقا ودما و لكنها لم تتبلور مشروع بناء ،فكثافة الاستبداد كانت تحجب التفكير بما يتجاوز مواطىء الأقدام.

ولذلك كانت» افق ثورة» حكم مسارها الية التجريب والتدافع بين إرادات التقدم و مقاومات الانتكاس ، بين القوى التي اعتبرت اللحظة فرصة يجب دفعها للاقصى وتلك التي اعتبرتها كارثة يجب الحد من خسائرها .
حصيلة التدافع هي التي ستجعلنا امام ثورة تحققت او امام الوضع السابق بعد ان تجمل بتغيير رأسه . آلية التجريب قد تبدو اعتباطية في المنطلق، ولكن القراءة الاسترجاعية للمسار تكشف عن معقولية ما، وتكشف عن المضمر في التعاقدات بين الفاعلين، حتى اكثرهم تباعدا .
القراءة الاسترجاعية تكشف المنطق الداخلي للممارسة الجماعية الذي يمكن اعتباره تنظيرا عفويا يفسر السابق و يحكم اللاحق،فيعوض خلل غياب التنظير المسبق .

2 - يمكن قراءة المنطق الذي حكم السنوات الست الماضية ،في هذا الوضع الذي «يرفض فيه القديم الموت ، و يتأخر الجديد عن الولادة» ،من خلال تسليم الاتجاه الغالب بضرورة إحداث تغييرات جذرية لتستحق الثورة اسمها، و من خلال التوافق على الاشتغال على مسارات ثلاثة ، مع مراعاة المنطق الخاص بكل منها :المسار السياسي/ التأسيسي، و المسار التنموي /الاجتماعي، والمسار الثقافي .

3 - السياسي هو المدخل ، بما فيه من اعادة تأسيس لبنيان الدولة ، وإضافة مكون السلطة المحلية فيه وهي إضافة جوهرية ، و بما فيه من ارساء لهيئات تعديلية، اضافة لسلطات المجتمع المدني ، وبمافيه من معالجات لجراحات الماضي ، وبما فيه التقدم في اجراء الانتخابات لامتحان القدرة على التداول السلمي على السلطة .
السياسي هو المفتاح ، وهو الاكثر والأسرع مردودية .ويمكن المراهنة على تغييرات تحصل بسببه خلال سنوات قليلة، و بالتقدم فيه تطلق الديناميكيات وتوفر المناخات لانتعاش غيره من المسارات .
التصور النظري لبناء الفضاءين السلطوي و السياسي جيد ، و حصيلة الممارسة معقولة ، لكن مسار انتاج النخب السياسية الجديدة بطيء لعجز (او عدم رغبة )الاحزاب الكبرى على الانفتاح ، و لنخبوية العروض الحزبية الجديدة ، ولتأخر تنظيم الانتخابات المحلية التي كان من شأنها ان توفر فرصا واسعة التنافس (حوالي ثمانية آلاف مقعد ، بينما انحصرت المنافسة لحد الآن في 217مقعدا نيابيا اضافة لموقع رئاسة الجمهورية ).

4 - العامل الاجتماعي كان هو السبب المباشر لاندلاع الثورة و انطلاقة مسارنا الاصلاحي بعدها ،و من ثم تكمن اهمية المسار التنموي /الاجتماعي في بنائنا الثوري .
و لكن زمنية التغيير في هذا المجال تختلف عن زمنية التغيير في السياسي.اذ يمكن ان نغير نظاما انتخابيا في شهرين ، و ان ننجز انتخابات بعدها، و لكن تحرير ماكينة انتاج الثروة وإعادة توزيعها بما يحقق استحقاق الكرامة يتطلب تغييرا وحدته الزمنية تقاس بالعقود.
غير ان الأشكال لا يكمن فقط في ضعف وتعثر المنجز ، بل في غياب الافكارالدافعة و في ضعف الإرادة .لكأننا امام ارتباك في مواطن التركيز ، لكأن السلطة ومعاركها طغت على سؤال الغاية منها:لماذا نحكم ؟

5 - لا ثورة حقيقية دون ثورة ثقافية ، ودون بناء انسان جديد ، في تصوراته وأخلاقه وأدواره ، بما يحقق حريته وسعادته .هو المواطن في السياسة،هو المبادر في الاقتصاد ،و هو المساهم في صناعة التاريخ . تراكم آثار الاستبداد ، والانحطاط ، و التبعية ،يجعل التغيير في هذا المسار يقاس بوحدة الاجيال .

6 - لكأن عقلنا الجمعي انتبه مبكرا انه لا يمكننا خوض كل استحقاقات التغيير الثوري في هذه «الثغرة التاريخية» في نفس الوقت و بنفس النسق ،ومن هنا دخل منطق المفاتيح والأولويات.
لا يعني ذلك تجميد اي ساحة من الساحات ، و انما المقصود مراعاة التوازن والنسق .لقد انتبهنا، كتونسيين ، اكثر من مرة ، وأحيانا دفعنا ثمنا لذلك ،الى خطورة الدفع لحسم القضايا الثقافية الكبرى بمنطق السرقة او المرور بقوة او الغالب و المغلوب .لقد انتبهنا الى خطورة ذلك الخليط المتفجر بين الشحن الايديولوجي و الحسابات الانتخابية المتسرعة حينما تتنزل وسط مناخ من الاحساس بالغبن الاجتماعي والتهديد الإرهابي .عاينا ذلك خلال انتخابات 2011، وأثناء مناقشة الدستور ،وغيرها .
و انتبهنا ان عوامل التقسيم بين التونسيين موجودة وكثيرة وحقيقية ، اجتماعية وثقافية وسياسية و حتى جغرافية .لا حاجة بنا الى اعادة التذكير بدروس انتخابات 2014التشريعية و الرئاسية .بما ساهم في التواضع ، فيما افهم ،على وصفة ،هي وصفتنا التونسية للانتقال من فرصة ثورة الى ثورة حقيقية ترتكز على مرتكزين أساسيين :
- الثورة مشروع شامل (المسارات الثلاث ).
- السياسي هو المفتاح بما يوفره من فضاءات ومناخات وآليات وضمانات .
- التنموي هو ثاني الاولويات .
- الثقافي يعالج معالجة هادئة تتوزع بين السياسي المؤسساتي و المجتمعي .
و لكن عنصر الفرز الأساسي هو السياسي وصراع البرامج .
أحيانا تدخل الساحة ارباكات نتيجة الرسائل الملتبسة بسبب تعثر السياسي ، او الاحساس بتجاهل الاجتماعي أو استعجال الثقافي في ساحة لا يمكن ان تتقدم دون أقصى درجات الوضوح.

7 - تحدثنا في حوارات او مقالات سابقة عن خطورة الهشاشة والتشوهات في المشهد الحزبي ، وعن خطورة معالجة قضايا التنمية و التشغيل بمنهج المسكنات .
غير ان المزاج الوطني هذه الايام يدفعنا الى السؤال عن أسباب الانزلاق للسقوط في مربع الشحن الايديولوجي احيانا .يمكن ان نعدد بعض الاسباب :

- غواية استصحاب تجربة الجمهورية الاولى :
بورقيبة استعمل الدولة اداة لتحقيق تصوره للتحديث.قد نختلف معه في ذلك وقد نتفق، و لكننا نجد تفسيرا ،فالتغيير من فوق كان مزاج العصر ،والسلطة كانت هرمية بالطبع في النظم الملكية ، وكانت كذلك في الجمهوريات الحديثة.و كان يمكن التعلل بارتفاع نسبة الأمية وبضعف قاعدة النخبة وباستعجالية تغيير العقليات لتدارك التأخر التاريخي و الولوج في معركة التنمية ، اي «الجهاد الأكبر».

نفس الشيء حصل بعد سنة 1987،حيث قايضت نخب «تنويرية»صمتها حول ملف الحريات رغبة في تحقيق التنوير التربوي والثقافي .لعلنا نغفل هنا الفارق الأساسي بين جمهورية 1957 العمودية ، وجمهورية 2014التشاركية .القيمة الاساسية في الجمهورية هي المساواة ، هذه الكلمة السحرية التي يكثر استعمالها حتى من اكثر الذين يصدرون عن عقلية استعلائية ، فوتنا فيها في تجربتنا الاولى فاعادت لنا ثورتنا البوصلة .في الجمهورية الديموقراطية يتوفر فضاء واضح للتنافس السياسي وللتداول على المواقع ، وتتوفر فضاءات للحوار المجتمعي ، فلا توجد ضرورة للتسرب و السرقة .
بالطبع «المحظوظون»، أو من يعتبرون أنفسهم كذلك ، لاعتبارات ثقافية او اجتماعية او مالية ،يجدون دائما طريقة ما للقرب من دوائر التأثير او للمحافظة على امتيازاتهم .حدث ذلك مع بورقيبة نفسه بالزواج ،وحدث ذلك مع بن علي من خلال دائرة الاصهار .
و حتى في جمهورية ما بعد الثورة فلم تحصل القطيعة في الصورة الخارجية للحكم الا لفترة وجيزة بعد مارس 2013 حينما اصبح على رأسي السلطة التنفيذية أثنان من غير المواطن التقليدية للحكم .

- وهم احتكار الحداثة :
الاستعلاء ياخذ صيغا متعددة .و احدى تعبيراته هي «الحقرة الثقافية «،عقلية شعب الله المختار .للاسف يوجد هذا في بلادنا ، الان ، بعد الثورة ،و ليس له من مبرر في الحقيقة.اذ هو ناتج عن قراءة تبسيطية للواقع حيث توجد خارطة ثلاثية : ال»نحن»،شعب الله المختار(الأبيض) ، و الاخر المقابل (الأسود) ، و هناك ،في الأسفل ،الشعب ،الذي سنصله برسالتنا التمدينية. كما هو ناتج عن كسل ذهني .و كأن الحداثة وصفة وليست مسارات متعددة ومتنوعة .

يخيل لي احيانا ان بعض الاصدقاء لا يقرؤون او لا يسافرون ، اذ القراءة و السفر يعلمان التواضع والنسبية ، حين ننتبه الى النظرة التي يلقيها امثالنا من البشر على العالم ، فيجدون توازنهم وسعادتهم في وصفات تنهل من المشترك الإنساني المنغرس في وصف الفطرة (محمد الطاهر بن عاشور )و تغتني بألوان محلية من الطبيعة والتاريخ والخيال .اما حينمانسافر بغاية التأكد من تفوقنا فلن نزداد الا جهلا وعنصرية .

المركزية كانت دائما مضرة باهلها اولا ،و بالتنوع البشري ثانيا .الكسل والادعاء يؤديان الى صياغة صورة لخصم نصنعها نحن فتدفعه الى الدفاع الانكفاء والمحافظة ، اوتضغط عليه لإجباره على التجمل ،ليقرأ كل ما ينجزه في سياق الترضية والاستجابة للإملاءات .و هذه التقنيةقد تليق بالمخابرات، ولكنها لا تليق بالمثقفين و خاصة بالأكاديمين .
وسط هذا التدافع الثقافي الملغم ،و الملوث بالافكار المسبقة تسوق خارطة خاطئة .فعوض التوجه لمواجهة التخلف في عمقه الاجتماعي بمنظور ما اسميه «التواطؤ الاصلاحي «،تنصب الجهود على ابتزاز المنافس /الخصم، وحشره في الزاوية،ونصب محاكم تفتيش .
من داخل البيت النهضوي ، اعتبر المنجز التجديدي فيها عاليا جدا ، في مسيرتها ، وفِي مؤتمرها العاشر، وأعرف أن قابليتها لمزيد من التجديد كبيرة، استجابة لحاجةاوضاعها الداخلية و استجابة للمطلوب منها وطنيا .

لكني ارى ان احد اخطاء النهضة الكبرى قبولها منزلة المتهم .بالطبع ثلاثين سنة من البحث عن التاشيرة (الاعتراف السياسي)، تبعتها سنوات من الضغط و التشكيك يمكن ان تدفع الى بسيكولوجيا الاعتراف الاجتماعي .
المفارقة ان هذا السعي للاعتراف ليس من الشعب ، اذ لا يعتبر اقليا من له اكثر من مليون ناخب، و انما من فئات خولت لنفسها امتلاك أبواب معابد الديموقراطية و الحداثة .

8 - قد يكون من المفيد للجميع التحكم في الاندفاعات.فاخطر ما يمكن ان يضر الديموقراطية ان تحاول «جُزيرات des îlots «من المحظوظين تسيير جمهورية ما بعد ثورة .
العقلانية قاسم مشترك يتجاوز جدران التنظيمات والأيديولوجيات ،و الحرص على التقدم الثقافي و الاجتماعي للمجتمع هدف مشروع قدر الحرص على التقدم السياسي و الاقتصادي ،انما الأشكال في البيداغوجيا .
فالإصلاح ليس مضمونا فقط انه ايضا عملية بيداغوجية تحسن التزمين والترتيب والمداخل .و كثير من المداخل المنهجية الخاطئة أدت الى نتائج عكسية ، وإدارة المسارات في الوضع الديموقراطي التشاركي تختلف عن ادارتها في اوضاع الاستبداد .وقد تغير، ولله الحمد ، الزمن .اعرف ان العقلاء لن يسمحوا بحصول حرب جديدة في طروادة .
خلال بعض الاجتماعات الحزبية اثناء حكم الترويكا كان بعض الاصدقاء من التكتل، من ضمنهم سي المولدي الرياحي ، يشددون ان الالتقاء بيننا سياسي وليس فكريا .كنت اعلق: «لاننا لم نتعمق في النقاش الفكري ، ولو فعلنا لوجدنا ان الاختلافات بيننا اقل بكثير مما نظن» .
لنعد ترتيب أجندتنا الوطنية ، و لنتفاعل مع كل مسار وفقا لمنطقه الخاص، ولنتجنب التكديس الذي قد يضر بمجمل البناء.

بقلم: عبد الحميد الجلاصي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115