في أزمة الديمقراطية

تعيش الأنظمة الليبرالية والديمقراطية بصفة عامة أزمة عميقة في السنوات الأخيرة على المستوى العالمي . لهذه الأزمة عديد الملامح والمظاهر من أهمها فقدان الثقة في النظام الديمقراطي وتصاعد القوى الشعبوية

المناهضة للنظام الليبرالي. فقد تراجعت مساهمة المواطنين في الحياة الديمقراطية بصفة عامة والحياة العامة من انتخابات وانخراط في العمل السياسي والأنشطة الاجتماعية والاقتصادية .كما تراجع كذلك انخراط المواطنين في الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والنقابية الجماهيرية وقد نتج عن أزمة الثقة نفور كبير من العمل السياسي والديمقراطي ومن أشكال التنظيم التقليدي والتي شكلت في السابق أسس العمل الجماهيري. كما عرفت الأحزاب التقليدية أزمات كبيرة وتراجعا هاما لتأثيرها في اغلب البلدان الديمقراطية ولعل أهم دليل على ذلك هو نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية في دورها الأول والتي شهدت انسحاب أهم حزبين وهما الحزب الاشتراكي اليساري من جهة وحزب اليمين الجمهوري من جهة اخرى واللذين عجز مرشحيهما عن الوصول إلى الدور الثاني من هذه الانتخابات وهذه الظاهرة لا تقتصر على فرنسا بل شهدت عديد البلدان الأوروبية تطورات من نفس القبيل ففي اليونان كذلك شهدت أحزاب الحكم التقليدية تراجعا كبيرا وانسحابا من دفة السلطة

والى جانب تراجع الأحزاب التقليدية وفقدانها لمصداقيتها فقد عرفت عديد البلدان صعود العديد من القوى السياسية الجديدة والمناهضة للأحزاب والمنظمات التقليدية وهذه الأحزاب والحركات الجديدة تحمل نقدا شديد اللهجة للأنظمة الديمقراطية من منطلق شعبوي وتندد بعجزها عن بناء أنظمة وفتح آفاق جديدة لها ففي اسبانيا مثلا عرفت حركة Podemos تطورا كبيرا لتصبح إحدى أهم الحركات السياسية في فترة قياسية ونفس الشيء حصل في اليونان مع حركة Syriza والتي أصبحت القوة السياسية الرئيسية في البلاد مع تراجع الحزب الاشتراكي والحزب اليميني المحافظ وهذه القوى الجديدة لا تأتي من اليسار فقط بل عرفت كذلك الحركات اليمينية والشعبوية تطورا ونموا كبيرا في السنوات الأخيرة نتج عنه تراجع القوى اليمينية التقليدية

ومع بروز هذه الأحزاب والتنظيمات الجديدة فإننا نلاحظ كذلك بروز قادة وشخصيات جديدة أصبحت تحظى بثقة الناخبين وعجلت بأفول نجم الشخصيات السياسية التقليدية فانتصار Trump مثلا في الولايات المتحدة الأمريكية كان مفاجئا لكل الملاحظين والمحللين باعتباره لا ينتمي لفئة السياسيين التقليدين وقدم من ميدان العالم وفي فرنسا شهدت الانتخابات الرئاسية صعود نجم المرشح Melenchon والذي كان قاب قوسين من الوصول للدور الثاني

ولعل القاسم المشترك بين هذه الأحزاب والمنظمات الجديدة والشخصيات هو رفضها للأنظمة السياسية السائدة وتقديمها لنفسها على أنها قوى ضد الأنظمة anti-système ومغالاتها في نقد هذه الأنظمة والتأكيد على عجزها على تحقيق مصالح المواطنين والتنقيص من التهميش والفوارق الاجتماعية وتصب كذلك سيول النقد على النخب والقيادات السياسية في هذه الأنظمة لابتعادها عن مصالح الناس وآمالهم ودخولهم إلى أبراج عاجية بعيدة كل البعد عن المشاكل اليومية ومن ضمنها تنامي البطالة والفقر والتهميش الاجتماعي

وقد أصبحت هذه الأحزاب والشخصيات الجديدة تحظى بثقة الناخبين والمواطنين باعتبارها تحمل آراءها ونقدها للأنظمة الديمقراطية وهذه الأحزاب والشخصيات تحمل نقدا شديد اللهجة للفكرة الديمقراطية والأنظمة الليبرالية من منطلق شعبوي وبسبب عجزها عن بناء عقد اجتماعي جديد على أنقاض عقد دولة الرفاه والذي انفرط منذ سنوات.وقد ولدت هذه الأزمة نموا كبيرا للبطالة وللتهميش الاجتماعي وغياب الأمل وانحصاره في المجتمعات الديمقراطية .

إذن تعيش المجتمعات الديمقراطية والفكرة الديمقراطية بصفة عامة أزمة ثقة كبيرة وتراجع إيمان الناس بقدرتها على تحقيق مطالب الناس وأحلامهم وآمالهم لا فقط السياسية بل كذلك الاقتصادية والاجتماعية والسؤال التي يطرح نفسه بكل جدية اليوم هو أسباب هذه الأزمة ومكامن العلة في الأنظمة الديمقراطية .وما هي أسباب فشل الأنظمة الديمقراطية وكيف يمكن لهذه الأنظمة إعادة إنتاج الفكرة الديمقراطية وخاصة قناعة الناس بقدرتها على فتح آفاق جديدة أمام الإنسانية.

وقد أثارت هذه التساؤلات جدلا فكريا كبيرا منذ سنوات في أغلب البلدان الديمقراطية ساهم فيه أهم المفكرين والباحثين. وقد ساهم هذا النقاش في العودة إلى الأصول التاريخية للأنظمة الديمقراطية وأسسها ومرتكزاتها فالمسار الديمقراطي وجوهر الفكرة الديمقراطية يشمل محاولة الإنسانية على مستوى التاريخ بناء أنظمة اجتماعية مستغلة تخرج من هيمنة سلطة الآخر لتبني القوانين والمؤسسات التي تجعلها تحكم نفسها بنفسها أو من داخلها وقد انطلق هذا المسار التاريخي مع ثورة الأنوار في أوروبا ليصبح جوهر الثقافة السياسية العالمية ومشروعا كونيا تلتقي حوله اغلب إذا لم نقل كل المجتمعات والحضارات والتي أدخلت عليه بعض خصوصياتها في بعض الأحيان لكن دون المساس بلبه والأفكار السياسية كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان واحترام الآخر والتعدد.

وقد ارتكزت هذه المنظومة الجديدة على ثلاثة أسس محورية الأولى هي السياسة وهدفها بناء أنظمة سياسية جديدة لا تختزل دورها في الوساطة بين الأنا والأخر لكنها تعبيرة على السيادة الجماعية التي تصبح تدريجيا سلطة القرار. الجانب الثاني هو الجانب القانوني ويهم بناء القوانين الجديدة والوضعية والتي ستؤكد الحقوق والحريات وستعطي الإطار الجديد للعلاقات الاجتماعية

أما الجانب أو الأساس الثالث فيهم التاريخ ويهم الخروج من الفكرة السائدة في المجتمعات التقليدية من أن الماضي هو المحدد والذي يعطي المشروعية لفكرة التقدم وقدرة المجتمعات الإنسانية على صياغة مستقبلها ونحت مجتمعات جديدة ومشاريع كبرى قادرة على تجاوز أزمات الماضي.

لعبت الفكرة الديمقراطية دورا كبيرا في التاريخ المعاصر وأصبحت بوصلة الأنظمة السياسية التي استأنست بها وجعلتها أساسها وجوهر المجتمعات السياسية الحديثة .

إلا أن هذا المسار التاريخي عرف العديد من الأزمات لعل أهمها وأخطرها هي الأزمة التي تمر بها الفكرة الديمقراطية اليوم وقد عمل عديد المفكرين على فهم هذه الأزمة وتحدياتها وإشكالاتها ومن أهم هؤلاء المفكرين الفرنسي Marcel Gauchet والذي اعتبره شخصيا من آخر عمالقة الفكر السياسي في فرنسا ولمارسال قوشي تأثير كبير على الحياة الفكرية في فرنسا فهو رئيس تحرير مجلة فكرية في فرنسا وقد اهتم في بحوثه في ثمانينات القرن الماضي بمسالة الحداثة والخروج من المجتمعات الدينية إلا انه اهتم منذ عشرين سنة بالمسألة الديمقراطية وأعطى لبحوثه في هذا المجال كل وقته وقد كان من نتائج هذا العمل البحثي والفكري الهام نشر أربعة كتب مفصلية وتأسيسية حول المسألة الديمقراطية وآخر هذه الإصدارات هو الكتاب الذي تم نشره في بداية هذه السنة تحت عنوان l’avènement de la démocratie – le nouveau monde وهو الجزء الرابع من هذا العمل البحثي الهام والخاص عن دار النشر الباريسية ڤاليمار.

ويؤكد Gauchet أن أزمات الديمقراطية تكمن في صعوبة الالتقاء والتوافق بين أسسها الثلاثة و هي السياسة والنظام السياسي والقانون وخاصة الحريات التي يعطيها ويضمنها للفرد ثم حركة التاريخ ويشير إلى أن أول أزمة عرفتها الديمقراطية والأنظمة الديمقراطية تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع ظهور الانتخابات للعام والاقتراع وفتح مجال المشاركة الشعبية الكبيرة إلا أن هذه الفترة تزامنت مع بدايات النظام الرأسمالي في مراحله الأولى والتي ولدت تطورا كبيرا في التناقضات الاجتماعية والبؤس والقهر الاجتماعي فخلقت هذه الوضعية أزمة كبرى فالمواطنون الذين كانوا يعتقدون انه بوصولهم للسلطة وظهور المنظمات النقابية سيتمكنون من تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية إلا أن تطور النظام الرأسمالي وتنامي الحيف الاجتماعي خيب أمالهم وجعلهم يشككون في قدرة الأنظمة الديمقراطية على حل هذه المعضلة وقد عرفت هذه الفترة وخاصة اثر الحرب العالمية الأولى تطور الحركات الشعبوية والفاشية والتي قامت بنقد كبير للنظام الديمقراطي وحاولت الرجوع إلى الأنظمة التوتاليتارية

إلا أن الأنظمة الديمقراطية تمكنت اثر الحرب العالمية الثانية من تجاوز هذه الأزمة الأولى للنظام الديمقراطي من خلال بناء دولة الرفاه الاجتماعي Etat providence والتي تمكنت من التوفيق بين تطور الديمقراطية والحقوق التي ضمنتها للأفراد من جهة ومن جهة أخرى تلبية المطالب الأساسية للناس وإدخالهم لعصر الاستهلاك(Consommation de masse)

أما الأزمة الثانية للديمقراطية والتي تعيشها البلدان المتقدمة منذ الثمانينات فتختلف عن الأزمة الأولى وهذه الأزمة هي نتيجة للتطور الكبير الذي عرفه الفرد والحقوق الفردية والاستقلالية الكبيرة التي أصبح يتمتع بها عن السلطة السياسية ويرى Gauchet أن التطورات الاقتصادية وبصفة خاصة العولمة ساهمت في تأكيد قوة الفرد ودعم سلطته من خلال إضعاف الدولة الوطنية وسيادتها – كما لعبت كذلك التكنولوجيات الحديثة والشبكات الاجتماعية دورا كبيرا في هذا التطور وفتحت مجالات جديدة لدعم استقلالية الفرد وابتعاده عن السلطة والدولة . ويرى Gauchet ضرورة دعم وبناء النسيج الاجتماعي من اجل الخروج من هذه الأزمة الجديدة للديمقراطية

جل هذه القراءات والتحاليل حول النظام الديمقراطي وجذوره التاريخية وفهم أسباب انتكاساتها هي من لأهمية بمكان باعتبار دخولنا في فترة تحول ديمقراطي وبالرغم من قصر عمر تجربتنا في هذا المجال فقد بدأنا نلاحظ بعض مظاهر الوهن والارتداد وتشير هذه القراءات في تاريخ النظام الديمقراطي الذي قام به Gauchet إلى ثلاثة استنتاجات أساسية المسألة الأولى هي أهمية الفكر النقدي والمعارض في الأنظمة الديمقراطية فهي التي تعطي للديمقراطية إكسير الحياة وتمنع الرأي الواحد من التطور وتغلق الباب أمام إمكانيات عودة الاستبداد المسألة الثانية الأساسية هي العلاقة العضوية بين الجانب السياسي والاجتماعي وأشارت هذه الدراسات أن تلبية المطالب الاجتماعية تشكل الأساس الصلب لبناء نظام ديمقراطي مستقر أما المسألة الثالثة فتخص الرابط الاجتماعي وضرورة دعم العلاقات الاجتماعية والجانب الجمعي collectif وحمايته كي لا تساهم الفردانية المطلقة في تمزيق النسيج الاجتماعي وضرب النظام الديمقراطي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115