بعد اتساع رفض الهياكل الجامعية والنقابية لمشروع تنقيح نظام الانتخابات المقترح من الوزارة الحكمة تقتضي التراجع عن التنقيح والتوجه الجماعي للندوة الوطنية لإصلاح التعليم العالي

بقلم حبيب القزدغلي

عميد كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة

أعاد مشروع التنقيح للأمر المتعلق بطريقة الانتخاب أجواء التوتر في أوساط الجامعيين بعد أن استبشروا خيرا اثر اعلان الوزارة عن بعث عشرة لجان تحضيرية استعدادا لعقد الندوة الوطنية حول اصلاح منظومة التعليم العالي يومي 30 جوان و1جويلية القادم. لقد أدخل المقترح الجديد أجواء من الريبة حول النوايا الحقيقية من طرحه قبل اسابيع من دخول الجامعيين في انتخاب مديري أقسامهم وأعضاء مجالسهم العلمية ومسيري مؤسساتهم بصفة ديمقراطية في انتظار التوصل الى اصلاح جذري لمنظومة التعليم العالي وهو اصلاح طال انتظاره بعد انطلاق لجان التفكير منذ سنة 2012. وعوض التركيز على دعم اللجان العشرة قصد الوصول في الموعد لمخرجات جدية يتم اقرارها في الندوة الوطنية التي لم يعد يفصلنا عن موعد انعقادها سوى أشهر قليلة تفاجئ الوزارة الجميع وتقترح تنقيحا جديدا يغير محوريا طريقة الانتخاب في مستوياته الثلاثة (مديري الأقسام/ العمداء والمديرين/رؤساء الجامعات).

هل صحيح أن التنقيح الذي حصل في سنة2011 كان متسرعا واستوفى أغراضه؟
في حديث أدلى به السيد وزير التعليم العالي مؤخرا لجريدة حقائق الالكترونية (بتاريخ 02 افريل) برر مشروع التنقيح الجديد مصرحا «أن القرار الذي تم اتخاذه سنة 2011 كان بصفة سريعة لأنه كان قرارا ثوريا (كذا)... نحن نرى اليوم أنه لم يعد يتماشى مع الوضع الحقيقي للجامعة التونسية». هكذا وبجرة قلم يوضع اجراء كبير في مزبلة التاريخ في حين أنه سمح لأكثر من 190 مدير مؤسسة ومن بينهم -الزميل سليم خلبوس- ليصبحوا مسيرين منتخبين بصفة ديمقراطية من طرف اعضاء المجالس العلمية لمؤسستهم (كبار الناخبين) بعد أن ظل مديرو المعاهد لعقود طويلة يعينون من السلطة السياسية في غالب الأحيان في شكل مكافأة لخدمات تم تقديمها أو نتيجة لولاءات حزبية. وهكذا يتعرض أحمد براهيم لدفن معنوي في الذكرى الأولى لوفاته ويتم تناسي أن التنقيح المؤرخ في 09 جوان 2011 جاء ليجسد المبادئ الهامة التي أعلنها الوزير أحمد ابراهيم في 28 جانفي 2011 مباشرة بعد الثورة والمتعلقة بإقرار تعميم عملية الانتخاب في جميع هياكل تسيير مؤسسات التعليم العالي بعد أن كانت مقتصرة فقط على العمداء دون سواهم. لقد أصبح كل المديرين اضافة للعمداء يخضعون لانتخاب من طرف مجالس علمية هي بدورها منتخبة ومثل هذا الاجراء تحولا جذريا في حياة كل مؤسسات التعليم العالي . كما تضمن نفس التنقيح انتخاب رؤساء الجامعات وعددها 13 جامعة وكذلك نوابهم من طرف مجلس كل جامعة الذين يتألفون أيضا من

أعضاء منتخبين. لقد شكل تعميم انتخاب جميع مسيري المؤسسات الجامعية (حوالي 200) بعد أن كان مقتصرا على حوالي عشر كليات كبرى وأيضا انتخاب رؤساء الجامعات اجراءا ثوريا دخلت بمقتضاه المؤسسات الجامعية بداية مرحلة التسيير الذاتي رغم أن الامكانيات المادية بقيت دون تغيير ورغم أن الاصلاح المنشود لمنظومة التعليم لا يزال يراوح مكانه وبقيت الجامعات تعتمد الى حد اليوم على المنظومة التي تم اقرارها بقانون شهر سبتمبر 2008. ورغم ذلك فقد تم العمل بهذه الطريقة في مناسبتين (جوان 2011 وجوان 2014) في حين أن البلاد لم تتوصل الى اجراء انتخابات بلدية واحدة وهكذا مثلت هذه الممارسة الجديدة نقلة نوعية في حياة المؤسسات الجامعية وخففت الى حد بعيد من أجواء التوتر التي كانت تحدث من جراء وجود مجالس علمية منتخبة في المعاهد والمدارس العليا في حين كان مديروها معينون من السلطة السياسية خدمة لغايات في غالبها غير جامعية.

قفز في المجهول عبر تنقيح يغير جوهريا طريقة الانتخاب
ففي الوقت الذي كان فيه الجامعيون ينتظرون نتائج لجان التفكير والورقات التي سيتم اعتمادها في الندوة الوطنية للإصلاح تفاجئ الوزارة الجميع وتركز على تنقيح طريقة الانتخاب . صحيح أنه لا يوجد نظام انتخابي مثالي لكن النظام الذي تم اعتماده في مناسبتين سمح بتسيير هادئ في مجمله رغم صعوبة الفترة التي مرت بها البلاد خاصة زمن حكم «الترويكا» عندما كانت المؤسسات الجامعية عرضة لهجومات السلفيين من الأسفل وهجومات الرئيس المؤقت المرزوقي ووزيري التعليم العالي والداخلية من الأعلى. وقد طال ذلك خاصة الكليات التي تمسكت بالدفاع عن الحريات الأكاديمية ورفضت المهادنة مع من كانوا يريدون وضع الجامعة تحت «تعاليمهم» الناتجة عن فهم منغلق للدين بعد أن كانت نفس هذه الكليات عرضة لقصف القرارات الاستبدادية وعزل خيرة اساتذتها بدعوى بلوغهم سن التقاعد في حين كان التمديد يهدى للموالين. لقد مكنت الشرعية الانتخابية التي تمتع بها المديرون والعمداء والمجالس العلمية المنتخبة من ايجاد نوع من الانسجام والتوافق بين المدرسين حيث لم تسجل إلا حالات قليلة لمؤسسات وقعت فيها مشاكل بين أعضاء مجالسها والمديرين وهي تبقى استثناءات مقارنة بالعدد الجملي للمؤسسات . لذلك لم نلاحظ أية حركة او رغبة عميقة وشاملة للمطالبة بتغيير هذا النظام الانتخابي باستثناء ما صرحت به منذ سنة 2011 قلة من الزملاء ظلت خارج السرب -وهذا من حقها- حين طالبت بضرورة الاقتراع المباشر لمسيري المؤسسات الجامعية رافعة شعار «لكل شخص صوت» . فهل يمكن اعتبار مقترح التنقيح الوزاري الأخير نسخة جديدة لذلك المطلب الشعبوي أو تبني غير مقصود له ؟

بدعة مقولة « لكل شخص صوت»
فإضافة الى الاستغراب الذي تم التعبير عنه في أكثر من بيان ومن لائحة حول عدم وجود شرح اسباب مقترح التنقيح يبدو واضحا من استقراء فصوله وجود نزعة لتغيير تعريف المدرس-الباحث القار في التعليم العالي وهو الذي يدخل مجال التدريس عن طريق المناظرات ويخضع ارتقاؤه تباعا من أدنى الرتب الى أعلاها للتقييم العلمي عبر انتاج البحوث وتجديد المعارف ونشرها . فمن بين النتائج الوخيمة التي قد تنتج عن منح التصويت للزملاء من غير الأساتذة – الباحثين امكانية «ارتهان» انتخاب مديري معظم أقسام الانقليزية التسعة عشر بأيدي زملائهم من خارج سلك الأساتذة الباحثين علما و أن الجامعات التونسية لم تعد تضم حاليا سوى 08 أساتذة انقليزية من صنف –أ- في حين يوجد بها حوالي 1700 مدرس انقليزية من خارج رتبة الأساتذة الباحثين. لذلك وحتى في صورة تشريك هؤلاء الزملاء في الانتخاب مستقبلا لا بد من اشتراط تسجيلهم على الأقل في الماجيستير أو في اعداد رسائل دكتورا. ومن بين المخاطر التي تضمنها مشروع التنقيح تنصيصه على انتخاب العميد/المدير بالاقتراع المباشر وهو ما سيؤدي حتما لفرقعة المؤسسات عبر اقحامها في «الفوضى

الخلاقة وفي التدافع» باعتبار أن كل الأساتذة بقطع النظر عن رتبهم سيجتمعون لانتخاب العميد/المدير ويعطونه شرعية لم يعد يستمدها من المجلس العلمي (من كبار الناخبين). سيعتبر العميد/المدير أن مشروعيته تتجاوز هذا الهيكل التعديلي الذي لن تبقى لديه من امكانيات للضغط سوى التهديد بسحب الثقة وهي آلية رغم التحديد الذي ورد في التنقيح بخصوص استعمالها فإنها لن تخدم التواصل المنشود بين المجلس العلمي ورئيسه باعتبار أن لكل منهما قاعدته الانتخابية المستقلة عن الأخرى اضافة الى أن القاعدة تقول «أنه لا يمكن من ممارسة حق سحب الثقة إلا ذاك الذي قام بمنحها». ومعلوم أنه وفي هذه الحالة فأن العميد/المدير سيكون منتخبا من قاعدة انتخابية أوسع من المجلس العلمي لذلك لا يمكن لهذا الأخير سحبها منه. ومهما يكن من أمر فان انتخاب العميد بالاقتراع المباشر وليس من طرف المجلس العلمي سيجعل هذا الأخير في حل من أي مراقبة من قبل المجلس العلمي وهو ما يمكن أن يؤدي الى الانفراد بالرأي أوالشلل الكلي للمجلس العلمي. كما أن مشاركة من هم دون المترشح للعمادة رتبة علمية في عملية التصويت سيدخل جسم الأساتذة الباحثين

-المعتمد على تراتبية علمية- في فوضى عارمة نتيجة «الوعود الانتخابية» التي يمكن ان يعمد البعض الى تقديمها الى أعضاء الصنف «ب» وهم الأكثر عددا في كل المؤسسات وبذلك سيصبح كل العمداء رهائن لدى الصنف الأكثر عددا. مع العلم أن الاختفاء وراء المساواة بين جميع الرتب هو قمة الخداع لأن التراتبية بين الأصناف الجامعية لها عقلانياتها العلمية. لأن المساعد يتقدم أمام الأستاذ المحاضر لمناقشة أطروحته و يتقدم المساعد أمام الأستاذ المحاضر للارتقاء الى رتبة أستاذ مساعد كما أن الأستاذ المساعد بدوره يتقدم أمام الأستاذ والأستاذ المحاضر عند الترشح لنيل التأهيل الجامعي أو بعد ذلك عند الترشح لخطة أستاذ محاضر أو أستاذ تعليم عال. فوراء المساواة الظاهرية وحق الجميع في انتخاب العميد (مقولة لكل شخص صوت) ستبرز الى العلن ممارسات ستضرب الهيكلية والتراتبية التي يقوم عليها التعليم العالي مع العلم وأن رتبة مساعد أو أستاذ مساعد هي وضعيات مؤقتة في مسيرة الباحث الجامعي لأنه يجب أن يبقي طموح الأستاذ الباحث مشدودا الى الرتب الأعلى عن طريق البحث وتجديد المعرفة والتقييم والمناظرة. أما فيما يخص انتخاب رؤساء الجامعات فقد اقترح التنقيح الأخير اقرار «طريقة الاقتراع على القائمات». ويعنى ذلك أن القائمة المتقدمة عن القائمة المنافسة بصوت واحد تفوز بجميع المقاعد ويتم بذلك الاقصاء التام والنهائي لجميع أعضاء القائمة الأخرى من المشاركة في أي مظهر من مظاهر التسيير. ان أصحاب مشروع الأمر الحكومي لم يكلفوا أنفسهم حتى الاستئناس بالنظام الانتخابي المعتمد منذ 2011 حيث مكن الاعتماد على أكبر البقايا من كسب جزء من المترشحين وأدخلهم في عملية التسيير والقرار متفاديا تركهم على الهامش يمارسون المعارضة الاحتجاجية من خارج المؤسسات. صحيح أن البيان الوزاري الصادر بتاريخ 21 مارس ألغى هذا الاقتراح لكن مجرد ادراجه مثل دليلا اضافيا على مدى التسرع وعدم التروي الذي ميز اقتراح التنقيح برمته في هذا التوقيت بالذات.

الحكمة تقضي التراجع عن التنقيح الى حين إصلاح المنظومة بأكملها
عموما وتفاديا لكل ارتجال وتسرع نرى من الأفضل التراجع عن هذا التنقيح (الذي رفضته المجالس العلمية لأكبر الجامعات : قرطاج- المنار- تونس- منوبة وصفاقس وجندوبة اضافة للرفض الواضح والذي يحتمل الشك الذي عبرت عنه الجامعة العامة للتعليم العالي) والاكتفاء بإجراء الانتخابات بالطريقة التي تم اعتمادها في كل المؤسسات والجامعات منذ 2011 حتى لا تتهم الوزارة بالسعي الى دفن المرحوم أحمد براهيم مرتين بعد أن اقترن اسمه بتعميم الديمقراطية كآلية للتسيير وبداية التوجه نحو حوكمة عقلانية في المجال الجامعي . ففي الوقت الذي ينتظر فيه الجامعيون والرأي العام مخرجات مشاريع لجان الاصلاح الموعود الذي طال انتظاره منذ 2011 بدا مقترح التنقيح وكأنه محاولة لتلهية الجامعيين بتنقيح جديد للقانون الانتخابي سيكون بدوره عرضة للتحوير والمراجعة ضمن عملية الاصلاح الشامل لمنظومة التعليم العالي والتي تتطلب اجراءات عميقة وموجعة وشجاعة حتى يمكن انقاذ ما يمكن انقاذه من منظومة تعليمية كانت أحد عناوين التحديث والانفتاح لتونس الاستقلال والبناء وأصبح الجميع يقر أنها وصلت الى حدها. لذا فان كل تراخ وكل محاولة تفصي أو هروب الى الأمام ستكون لها عواقب وخيمة لأنها سترتهن مستقبل الوطن وهم شبابه الذي نحن بصدد تحويله من حيث ندري أو لا ندري الى قنابل موقوتة أو الى جيل من الناقمين.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115