يشهد القطاع الطبي والشبه الطبي في تونس منذ فترة حالة من الاحتقان والفوضى. والوضعية مرشحة لمزيد التعقيد بسبب حالة الغليان التي يشهدها القطاع بعلاقة مع ملف الدكتور سليم الحمروني والفني صالح عبد الـــــلاوي، الموقوفين بأحد السجون التونسية على ذمة التحقيق في شبهة خطأ طبي. فعلى رغم إجماع كل الاسلاك الطبية والشبه الطبية في القطاعين العام والخاص على ضرورة تغليب العقل والتعامل مع وضعية الطبيب والفني بطريقة أكثر عقلانية وأكثر مرونة وإطلاق سراحهما مع متابعة التحقيق معهما في حالة سراح فإن السلطات تواصل إغفال هذا الملف والتعامل معه بسلبية مبالغ فيها.
الأخطاء الطبية ليست بدعة تونسية
الأخطاء الطبية، إن حدثت، ليست بدعة تونسية ولا هي حكر على الأطباء التونسيين، المشهود لهم بالكفاءة محليا ودوليا بل هي مجرد حوادث قد تقع خارج إرادة الطبيب والممرض ومساعديهم من دون أن يكون هناك أي خطأ أو إهمال وليس أدل على ذلك من انتشارها في كافة بلدان العالم وبنسب متفاوتة وبحسب الامكانيات المتوفرة للطبيب من حيث التشخيص وطرق المعالجة والخصوصية الصحية لكل مريض ومدى تجاوبه مع دواء معين ومدى تأثره بأعراضه الجانبية ونورد في هذا السياق بعض الأرقام من بعض الدول في العالم. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر دولة في العالم، تتسبب الأخطاء الطبية في وفاة حوالي 250000 مواطن، استنادا لدراسة أنجزها الدكتوران «مارتن ماكاري» و «مايكل دانيال» المختصين في الجراحة بجامعة «جون هوبكينز» بولاية «ميريلاند»...أما في فرنسا أقرب دولة لنا من حيث التعاون الطبي والفني في مجال الصحة والدولة العظمى بدورها، فإن الأخطاء الطبية تسببت سنة 2013 في 50000 وفاة وفق أرقام هيئة الدفاع عن ضحايا الأخطاء الطبية... وفي كلى البلدين تأتي هذه النسب في المرتبة الثالثة كسبب من أسباب الوفاة. بالاضافة لذلك، واستنادا لتقارير للتلفزة السويسرية، فإن الأخطاء الطبية تتسبب في وفاة ما يزيد عن الألف مواطن بهذا البلد سنويا. والجميع يعلم السمعة العالمية التي يتمتع بها هذا البلد على مستوى الخدمات الطبية. فضلا عن ذلك فإن دول الجوار العربي ورغم غياب احصائيات واضحة فأن الحالات المثارة في وسائل الاعلام وفي بعض المواقع ذات الاهتمام بالوضع الصحي تؤشر على وجود عشرات الألاف من الحالات في كل بلد...
هل يمكن لتونس أن تشكل الاستثناء؟
الارقام التي أوردناها آنفا إن كانت لتؤكد على شيء فإنه من دون شك أنه من المستحيل أن تكون تونس، هذا البلد الصغير بحجمه والكبير برجالاته، أن تشكل الاستثناء لقاعدة هي في الواقع ظاهرة ترافق العمل الطبي في كل أصقاع العالم، مع تفاوت نسبي بين هذا البلد وذاك، وقد عجزت التقارير والبحوث التي يقوم بها مختصون في تحديد سبب واضح وجلي لوجود الأخطاء الطبية، بل أكثر من ذلك لم تعد بعض البلدان مثل فرنسا تقبل بأن تسميها أخطاء طبية وعوضت هذا التعبير بمصطلح «الحوادث الطبية» وفي هذه التسمية الجديدة أكثر من مغزى. لعل أبرزها التسليم بغياب الجانب القصدي للخطأ الطبي وهو أقل حق يمكن أن يتمتع به الاطار الطبي والشبه الطبي بالنظر لطبيعة المهنة ولمعنى التدخل الطبي أصلا فما من طبيب يتدخل لاجراء فحص أو عملية جراحية أو أي عمل طبي إلا وهدفه انقاذ حياة الانسان المستهدف وليس العكس وإلا لانتفى أي معنى لمهنة الطبيب او المعاون أوالممرض...
وبالعودة لوضعنا في تونس ودائما في سياق الأرقام فإنه واستنادا لتقارير إعلامية تعود للسنة الفارطة ونقلا عن مصادر حقوقية فإن ضحايا الأخطاء الطبية الذين يتجهون للقضاء قدر بحوالي 7000 حالة ونتحدث هنا عن الأخطاء الطبية في مجملها وليست الحالات التي نجم عنها وفاة المتضرر.
وهذا الرقم لو قارناه بغيره من الأرقام في اكبر دول العالم لكانت النسبة ضئيلة ولا تقارن ولست هنا بباحث عن عذر لزملائي في القطاع بقدر ما أنا باحث عن عقلنة الخطاب المتعلق بهذا الملف الحارق.
لا لتبديد ثرواتنا الوطنية
إن تونس من دون أدنى شك من الدول الرائدة في الميدان الطبي وذلك بشهادة الأجانب قبل التونسيين، وإن الدولة التونسية التي بذلت مجهودات جبارة منذ الاستقلال من أجل تخريج أحسن الكفاءات الطبية التي تنتشر في كل بلدان المعمورة وتحتل أعلى المناصب، قد راهنت على صحة التونسي وعلى رأس مالها البشري، وقد جلبت لنا هذه الريادة، استحسان القريب والبعيد من أصدقائنا وأشقائنا، وأصبح بلدنا وجهة لمئات آلاف المتداوين، وهذا لايحدث بمحض الصدفة، وبعد أن بدأنا في الحديث عن وضع منظومة للسياحة الصحية يبدو أن معاول التحطيم بدأت تطال هذا القطاع الحيوي والهام من خلال تتالي فضائحنا المصطنعة لأسباب أقل ما يقال عنها أنها واهية ومفبركة وتنم عن قلة وعي بعض الأطراف بخطورة الموقف. وقد بدأت هذه الحملة تؤتي أكلها على ما يبدو، فأصبح الزملاء والزميلات يزج بهم في السجون لمجرد سوء فهم أو لمجرد شبهة وكأنهم يشكلون خطرا على الامن القومي أو هم اقترفوا جرائم، وأصبح الزملاء والزميلات يبحثون عن أقرب عقد ينأى بهم عن جحيم العمل في هذه الظروف الصعبة وكدليل على ذلك أن حوالي 80 ٪ ممن تقدموا لنيل شهادة المعادلة لممارسة المهنة بفرنسا هم من التونسيين... في صالح من تنفق الدولة مئات الملايين لتخرج طبيبا سرعان ما يذهب ليستفيد به غيرنا؟
إلى متى تتواصل فرجة من بين يديه القرار؟
إن الاحتقان الذي تعيشه الأوساط الطبية بكل أصنافها والأزمات المتتالية التي أصبحنا نعيشها على المستويين المهني والاجتماعي أصبحت تنذر بمآلات خطيرة قد تأتي على الأخضر واليابس وقد تؤدي، لا قدر الله، لتهاوي قطاع بأكمله، وعلى الرغم من التحركات والبيانات والاحتجاجات في شكل صيحات فزع من القطاع فإن أهل القرار من وزارة وسلطة تشريعية لم تحرك ساكنا لتهدئة الأمور وعقلنة الوضعية باتخاذ ما يجب اتخاذه من قرارات تحمي الطبيب ومعاونيه وتكفل حق المواطن ليعود حبل الود والثقة بين جميع الأطراف.
وليس على الدولة اليوم إن كانت جادة في معالجة الأمور إلات استعجال استصدار قانون يحمي الطبيب خلال تأديته لعمله وتهدئ من روع المواطن بأن تكفل له التعويضات الضرورية عند تعرضه «لحادث طبي» ليس الطبيب أو أحد مساعديه مسؤولا عنه بالضرورة وهذا موضوع آخر قد نخوض فيه لاحقا وهو مدى ملاءمة ظروف العمل من معدات وتجهيزات مع مقتضيات الاقرار بوجود خطإ طبي.