وجهت الهيئة الوقتية للقضاء العدلي قرارات الترشيح إلى رئيس الحكومة قصد إكسائها الصيغة القانونية وإصدار أوامر تسمية بشأنها والحال أنّ رئيس الحكومة لم يعد مختصّا في التسمية في الخطط القضائية، إذينصّ الفصل 14 من قانون الهيئة الوقتية للقضاء العدلي على أنّه «تكون تسمية القضاة وتعيينهم بناء على قرار ترشيح من الهيئة وذلك طبقا لأحكام الفصل 17 من القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 والمتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية...». وينصّ الفصل 17 من التنظيم المؤقت للسلط العمومية على أنّه «تختص الحكومة بممارسة السلطة التنفيذية باستثناء ما تم إسناده لرئيس الجمهورية.وتسهر الحكومة على تنفيذ القوانين ويصدر رئيسها الأوامر ذات الصبغة الترتيبية والفردية التي يمضيها بعد مداولة مجلس الوزراء وإعلام رئيس الجمهورية....». وهو ما يُستنتج منه أن اختصاص رئيس الحكومة في إمضاء قرارات الترشيح الصادرة عن هيئة القضاء العدلي والرامية إلى التعيين في الخطط القضائية مستمدة من الفصل 17 المذكور.من جهته يقتضي الفصل 148 فقرة أولى من الدستور أنّه «يتواصل العمل بأحكام الفصول 17 إلى 20 من التنظيم المؤقت للسلط العمومية إلى حين نيل أول حكومة ثقة مجلس نواب الشعب».، وبعد أن نالت حكومة السيد الحبيب الصيد ثقة البرلمان بعد الإنتخابات التشريعية والرئاسية أُلغي النص 17من التنظيم المؤقت للسلط العمومية بما تضمّنه من اختصاص رئيس الحكومة في إمضاء قرارات الترشيح سالفة الذكر.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ اختصاص رئيس الحكومة يبقى بالنسبة إلى إمضاء قرارات النقلة والترقية، باعتبار أنّ المؤسّس خصّهما بأحكام خاصة بهما صلب الفصل 14 من قانون الهيئة الوقتية ونصّ على أن «تكون ترقية (القضاة) ونقلتهم بأمر من رئيس الحكومة بناء على رأي مطابق من الهيئة»، وغني عن البيان بأنّ المقصود بالترقية هو الترقية في الرتبة ولا علاقة بذلك بالتسمية في الخطط الوظيفية كخطة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب التي خصّها كما سبق القول بإجراءات الفصل17 من التنظيم المؤقت للسلط العمومية.في المقابل، أسند الفصل 106 من الدستور اختصاص تسمية القضاة بما في ذلك التسمية في الخطط القضائية إلى رئيس الجمهورية وأحال الفصل المذكور صلاحية ضبط الخطط القضائية السامية إلى القانون الذي لم يتمّ سنه إلى الآن. واعتبارا إلى أنّ ممارسة الإختصاص يقتضي وجود نصّ قانوني صريح يجيز تلك الممارسة، فإنّه في غياب مثل هذا النصّ على النحو المبيّن أعلاه، لا يمكن لأي سلطة إدارية سواء كانت رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية إمضاء قرارات الترشيح الصادرة عن هيئة القضاء العدلي لا سيّما تلك المختلف بشأنها اليوم بين السادة القضاة وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء. ومهما يكن من أمر، وفي إطار إصرار جمعية القضاة التونسيين وبعض أعضاء المجلس الأعلى للقضاء على إمضاء قرارات الترشيح من طرف رئيس الحكومة الذي لا يملك أي سلطة تقديرية في هذا المجال حسب تقديرهم فيجدر القول بأن رئيس الحكومةولئن كان ملزما في حالة الرأي المطابق، بإقرار الترشيح الصادر عن الهيئة الوقتيّة للقضاء العدلي، فإنّ ذلك يكون مشروطا بعدم وجود خرق فادح للشرعيّة، وفي صورة اللاشرعيّة البديهيّة، على غرار خرق الدستور المتمثّل في نقلة قاض دون رضاه، فإنّه من واجب رئيس الحكومة قانونا عدم المصادقة على الترشيحات وإرجاعها إلى الجهة صاحبة الرأي. لذا، يتجه قانونا استبعاد كلّ الترشيحات التي تشوبها إخلالات بديهيّة وإرجاعها إلى المجلس الأعلى للقضاء الذي يتمتّع بالشرعيّة الإنتخابيّة، وهو صاحب الإختصاص في هذا المجال، فالإدارة ملزمة بعدم التسميةطبقا للترشيحات حسب الأستاذ Odent في الحالات التالية:
• إجراءات إصدار الرأي أو الإقتراح معيبة.
• الرأي أو الإقتراح ينقصهما الوضوح أو الدقّة.
• طرأت تغييرات على مستوى الواقع أو القانون جعلت المقترح غير قائم أو في غير طريقه.
وأمام كلّ الخروقات التي شابت قرارات الترشيح الصادرة عن الهيئة الوقتية للقضاء العدلي وتعمّدها الإنقلاب على تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، وفي ظلّ الإشكاليات القانونية الجدية التي ورثناها من السلطة التأسيسة وسوء صياغة النصوص القانونية، فقد دعونا، كهياكل ممثلة للقضاة، منذ بداية الأزمة إلى ضرورة التوافق في تقريب وجهات النظر وتجاوز الإختلافات والجدالات العقيمة ونبذ التعصب وتفادي الصراعات، وذكّرنا الجميع بأن التوافق كان أساسا لتجاوز البلاد لأزماتها وجعل تونس محل إشادة دولية، وكنّا نأمل بأن يكون التوافق طريق القضاة لحل مشاكلهم بعيدا عن كل ضغط أو تدخل أو تأثير وبعيدا أيضا عن أروقة المحاكم وما يمكن أن يصاحب ذلك من إهدار للمال والجهد وإطالة لأمد إرساء المجلس الأعلى للقضاء، إلاّ أنّ مبادرتنا لم تجد أذنا صاغية لدى جمعية القضاة التونسيين وبعض أعضاء المجلس الأعلى للقضاء الذين أصروا على مطالبة رئيس الحكومة بإمضاء أوامر الترشيح رغم عدم شرعية مطالبهم.
ولا يفوتنا في هذا المقام التذكير بشجاعة 21 عضوا من أعضاء المجلس الأعلى للقضاء الذين تولوا دعوة بقية زملائهم للإنعقاد طبقا لأحكام الفصل 36 من القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، في ظل استحالة تطبيق الأحكام الإنتقالية المشار إليها بطالع هذا، وذلك في محاولة منهم لحل الأزمة التي طالت انعقاد المجلس والدعوة إلى سدّ الشغور الحاصل في كل من مجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء المالي قبل انتخاب رئيس المجلس الأعلى للقضاء ونائبه ورؤساء المجالس القطاعية ونوابهم. إلا أن هذه المحاولة التي كانت كفيلة بحل الأزمة في إطار من التوافق لا قت صدّا كبيرا من طرف بعض أعضاء المجلس وتم الطعن في كل القرارات الوقتية التي تمّ اتخاذها أمام المحكمة الإدارية التي أذن وكيل رئيسها الأول بتأجيل تنفيذها، لتبقى بذلك الأزمة قائمة الذات بل زادت تعقيدا أكثر من ذي قبل.
ثمّ صدرت بعد ذلك مبادرة عن الرئيس الأول للمحكمة الإدارية ورئيس المحكمة العقارية ونائب الرئيس الأول لدائرة المحاسبات تضمّنت دعوة رئيس الحكومة لإمضاء أوامر الترشيح الصادرة عن الهيئة الوقتية للقضاء العدلي والمتعلقة بخطة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب ووكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب ورئيس المحكمة العقارية وذلك في ظرف أسبوع وفي حالة رفض رئيس الحكومة الإمضاء تقع دعوة رئيس الجمهورية لأمضائها. وغني عن البيان أن المبادرة المذكورة تخالف بداهة أحكام الدستور باعتبار أنّ رئيس الحكومة لم يعد مختصا في إمضاء قرارات الترشيح للخطط القضائية كما أسلفنا القول وأنّ رئيس الجمهورية ليس مختصا بدوره في إمضاء قرارات الترشيح الصادرة عن هيئة القضاء العدلي بل يستمد اختصاص التسمية في الخطط القضائية من الفصل 106 من الدستور وذلك بخصوص الترشيحات الصادرة عن المجلس الأعلى للقضاء دون سواه.
إن فشل كل المحاولات التوافقية الرامية إلى تركيز المجلس الأعلى للقضاء أدى إلى شلل تامّ للمؤسسات الدستورية وهو ما يهدّد استقرار الدولة مما يحتم التدخل التشريعي لتجاوز الأزمة وذلك من خلال تنقيح بعض الأحكام الوارد بالقانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء في اتجاه تمكين المجلس من الإنعقاد وبعيدا عن التوتر وعن الخلافات التي طالت أعضاءه.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أنّ التنقيح التشريعي لا يشكل بأي حال تدخلا في القضاء لأنّ التأثير على القضاء يكون من خلال التدخل في أعماله والتأثير على القضاة لفصل الدعاوى في اتجاه معين والحال أن مشروع القانون الماثل هو قانون إجرائي يهدف إلى حل أزمة ظرفية كان سببها الأصلي أحكام القانون الصادرة عن السلطة التأسيسية وتعمّد رئيس الهيأة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي السابق عدم دعوة المجلس للإنعقاد.
أما بخصوص ما وصفه البعض بأن مشروع التنقيح يمثل تأهيلا أو تصحيحا تشريعيا فهو في غير طريقه بداهة، ذلك أن المحكمة الإدارية عرفت هذه الآلية في حكمها المبدئي الصادر في القضيّة عدد 134854 بتاريخ 7 نوفمبر 2013بأنّه:«آليّة يتدخّل بموجبها المشرّع لإضفاء شرعيّة على جملة من الإجراءات القانونية السابقة بصورة رجعيّة وتغطية هذه الأخيرة لوضعيات قانونية نشأت في ظلّ نصّ قانوني سابق الوضع.
وحيث يتوقف الإلتجاء إلى هذه التقنية على توافر جملة من الشروط تتمثّل تباعا في وجود نظام قضائي يضمن رقابة دستوريّة القوانين سواء كان ذلك عن طريق الطعن المباشر أو عن طريق الدفع، و صدور أحكام قضائيّة غير باتّة وتوفّر عنصر المصلحة العامّة كمبرّر أساسيّ قاد المشرّع في استعمال هذه الآليّة».
وتطبيقا للمبدإ سالف الذكر فإن شروط التصحيح التشريعي غير متوفرة باعتبار أن قرارات تأجيل التنفيذ الصادرة عن المحكمة الإدارية هي قرارات تحفظية لا تتمتع بحجية الشيء المقضي به.
أمّا بخصوص محتوى التنقيح التشريعي فإنه لا يثير من جانبنا ملاحظات قانونية، بل بالعكس، فإن تمكين ومنح اختصاص الدعوة لعقد أوّل جلسة إلى رئيس مجلس نواب الشعب يعتبر أمرا سليما من الناحية القانونية باعتباره يجسّد السلطة التشريعية في البلاد ومنتخبا مباشرة من طرف الشعب صاحب السيادة وبإمكان هذا الحل أن يمكّن من تجاوز التضارب والخلافات بخصوص تأويل النص القانوني. كما أنّ الدعوة للإنعقاد لا يعتبر قرارا إداريا قابلا للطعن بدعوى تجاوز السلطة باعتباره عملا تحضيريا لا يؤثر في المراكز القانونية للمخاطبين به، أمّا بخصوص التنصيص صراحة صلب مشروع التنقيح على عدم جواز الطعن في الدعوة للإنعقاد ولو بدعوى تجاوز السلطة فنراه في طريقه تفاديا لمزيد تعطيل تركيز المجلس لا سيّما وأنّ كلا من الرئيس الأول للمحكمة الإدارية ووكيله، المختصين بالنظر في مطالب توقيف التنفيذ باعتبارها فرعا من دعوى تجاوز السلطة، عضوين بالمجلس الأعلى للقضاء وهو ما يفقدهما الحياد في حال تم الطعن في الدعوة للإنعقاد. وبخصوص النزول بالنصاب القانوني المنصوص عليه بالفصل 36 من القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء إلى الثلث فهو أمر عادي معمول به في عديد الهيئات على غرار مجلس نواب الشعب والهيأة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي ومن شأنه أن يضفي أكثر مرونة عند عقد جلساته التي ينتظر أن تكون كثيرة ومتعدّدة بالنظر إلى الصلاحيات التي منحها له القانون.
انتهى