• الفصل 1: «تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. لا يجوز تعديل هذا الفصل».
• الفصل 2: «تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون. لا يجوز تعديل هذا الفصل».
• الفصل 49: «..لا يجوز لأيّ تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور».
• الفصل 75 : «..لا يجوز لأي تعديل أن ينال من عدد الدورات الرئاسية ]دورتين كاملتين، متصلتين أو منفصلتين [ومددها بالزيادة.»
وهكذا و على عكس ما قد يتبادر للذهن، لم أقصد الفصول السنوية، المترنم بها في الأناشيد والأشعار. ولو كان القصد كذلك، لاكتفيت بفصل واحد، وهو فصل الربيع، الذي مازلت مؤمنا به لتونس، رغم عوارض التشويش لصورتها ولمناخها، والتي اعتبرها سحابات ربيع عابرة و ستنقشع.
وسأبقى إلى حين في هذا الإطار الطبيعي للمقاربة، و أذكر بأننا نعيش، كسائر دول العالم، تغيرات مناخية، والتي تحسبنا لها وأعلنا في الدستور عن وعينا: «بضرورة المساهمة في سلامة المناخ والحفاظ على البيئة سليمة بما يضمن استدامة مواردنا الطبيعية واستمرارية الحياة الآمنة للأجيال القادمة...» وينتابني اليوم شعور بالأسف، لعدم سحب ذلك على السياسة والسياسيين ، لنتحدث أيضا عن وعينا : بضرورة سلامة المناخ السياسي، والحفاظ على البيئة السياسية سليمة، بما يضمن استدامة موارد دولة القانون والدستور، واستمرارية الحياة الآمنة للأجيال القادمة، وهذا الجيل أيضا، والتعهد بتحقيق ذلك.
تعديل الدستور و يجوز التساؤل لماذا لم يقع التفكير في تعديل من هذا النوع، بعد أن تبين أن الحاجة ملحة إلى ذلك، أكثر من طلبات التعديل الأخرى التي تم التلويح بها وإن لم يبلغ الدستور سن الثالثة. وأبدأ بالتذكير بأن تعديل الدستور طبيعي و تم تخصيص باب لذلك، لكن بشروط. ينص الفصل 144 : « كلّ مبادرة لتعديل الدستور تعرض من قبل رئيس مجلس نواب الشعب على المحكمة الدستورية لإبداء الرأي في كونها لا تتعلق بما لا يجوز تعديله حسبما هو مقرر بهذا الدستور»وهذا الشرط الإجرائي غير متوفر اليوم لغياب المحكمة الدستورية من ناحية، كما أن الفصول الأربعة وهي لب الدستور محصنة من كل تعديل. لكن دعنا نجاري الحدث والمنطق الاستشرافي والافتراضي. فالمستهدف الأساسي اليوم بالتعديل، هو طبيعة النظام السياسي، الذي تسبب حسب البعض في عدم استقرار الحكم، وتقهقر البلاد على كل الأصعدة. ففي ثلاث سنوات مكن من استهلاك حكومتين، وشرع في الثالثة؛ بدون نتائج تبعث على الارتياح والتفاؤل. هذا ما دعا، إلى تحميل طبيعة النظام السياسي المسؤولية في ذلك، و الدعوة لاستبدال النظام الهجين ذي الطابع البرلماني الغالب، بنظام رئاسي يحقق الاستقرار.
شخصيا لا أرى وجاهة في تحميل المسؤولية لطبيعة النظام المدرج في الدستور. إذ أن الحكومات الثلاث الأخيرة تمتعت بثقة من المجلس تفوق الثلثين، مع ترؤس نفس الحزب للدولة ولمجلس نواب الشعب وللحكومة. كما أنه تحالف مع الحزب الثاني وحزبين أخرين، فلم يبق للمعارضة كملاذ إلا محاولات للحصول على توافقات، في أفضل الحالات. في الحقيقة من يدعي ذلك هو من يسعى إلى حجب فشل القيادات السياسية للحزب الأول الفائز في الانتخابات، التي أضاعت كل طاقاتها في التنافس، و الصراع، والانقسام بل الانفجار، مخيبة آمال وثقة من راهنوا عليها كحل، لصد الحزب الذي كان يخطط لتأبيد حكمه. وهكذا تم تفويت الفرصة التاريخية لتحويل الانتصار الانتخابي الظرفي إلى انتصار سياسي حقيقي، مستقر ومستدام لضمان التداول على الحكم، و التوازن الدائم فيما بعد.
إن الإشكال ليس في الدستور، ولا في طبيعة النظام السياسي، الذي وضع بالتوافق، بعد نقاشات مضنية بين المدافعين عن النظام البرلماني ، والمدافعين عن النظام الرئاسي. والمتعارف أن نظاما سياسيا ممتازا، وطبقة سياسية سيئة أو لا تحسن الأداء، لا يضمن نجاحا للبلاد؛ في المقابل إذا كان النظام السياسي سيئا والسياسيون يحسنون الأداء، يمكن تحقيق نجاح للبلاد. فلا ينفع تحميل الدستور مسؤولية إخفاق السياسويين الذين تصح فيهم أبيات الإمام الشافعي : «نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا ؛ ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ ولو نطق الزمان لنا هجانا؛ وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ ويأكلُ بعضنا بعضاً عيانا». وهكذا وللأسف الشديد، استفحل اليوم حزن المواطنين والمواطنات على السياسة والسياسيين، واليأس من الابتهال أن يغير الله ما بالقوم، إذ سبحانه لن يستجيب طالما لم يغيروا ما بأنفسهم.
ومهما كان الأمر، فتعديل الدستور جائز، و إنني مطمئن ومقتنع بأن الفصول الأربعة التي لقبت في الفقه الدستوري بـ «الأحكام الأبدية» « les clauses éternelles » وحتى فوق الدستورية «supra constitutionnelles» هي الضامنة لاستدامة الدستور الذي رسمناه ولمنع التراجع فيما تم اعتباره ثوابت و ضمان تطويره للأمثل، خاصة بالنسبة للحقوق والحريات. فلو عدلت كل الفصول، يمكن لتونس أن تعيش في نظام عصري ومتوازن بهذه الفصول الأربعة.
لهذا أعتبر الدستور الجديد، دستور الاستدامة أو هو قابل أن يكون كذلك. فمع إقراره صراحة للتنمية المستدامة، في بعدها الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أقر أيضا ما يجوز اعتباره «تنمية مستدامة مدنية وسياسية وحضارية» عبر هذه الفصول الأربعة المؤسسة للحياة الديمقراطية بدون رجعة، والضامنة لتطويرها. وبذلك تصبح كل التعديلات المسموح بها رهينة عدم النيل من هذه الثوابت. فالمتغيرات، مهما كانت، لن تنال من الثوابت، إلا بتطويرها نحو الأمثل، كل ذلك تحت رقابة القضاء، عامة، و المحكمة الدستورية خاصة، و الهيئات الدستورية المستقلة إضافة. وهذا ما يحملني على تصنيف دستور تونس في صنف الدساتير المستدامة، بمعنى أن تصميمه مؤسس على موازنة تأليفية توافقية، قابلة بل مدعوة للاستدامة، أي: «durable» بالفرنسية و«sustainable» بالأنجليزية.
ويجدر التذكير أن هذا الدستور ليس من صنع المجلس الوطني التأسيسي وحده، بل هو دستور شارك فيه، أو أثر على صياغته، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، ممثلو المجتمع المدني، والأحزاب، والمنظمات الراعية للحوار الوطني، والخبراء، و عديد الحقوقيين والجامعيين. كل هؤلاء الذين مع جماهير شعبية ، اقتفوا انسحاب أربعين نائبا من المجلس التأسيسي، بعد اغتيال النائب الشهيد محمد البراهمي، بعد الشهيد شكري بلعيد رحمهما الله، وابتسلوا وصابروا في «اعتصام الرحيل» لتصحيح المسار و إنقاذ الدستور. وهكذا انتهى سن هذا
الدستور، الذي كرس ضمانات استدامته برسم ثوابت الجمهورية التونسية المدنية، القائمة على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون، والمعتزة بانتمائها الثقافي العربي والإسلامي وبتفتحها وتنوعها، والساعية لإثراء الحضارة الإنسانية، و لتحقيق العدالة الاجتماعية والتمييز الايجابي، والتنمية المستدامة، والديمقراطية التشاركية ، والحقوق والحريات، و الكرامة الإنسانية ، وإقامة العدل باستقلالية القضاء. هذه أسس الدستور الجديد لتونس. هذا الدستور الذي تمت المصادقة على نسخته الأخيرة، بعد رحلة متعثرة وشاقة، في الليلة الفاصلة بين 26 و 27 جانفي 2014، بأغلبية تكاد تكون إجماعا لا أحد كان يتوقعها.هذا الدستور الذي كان من الأسباب الرئيسة التي ساهمت في إسناد الرباعي الراعي للحوار و لتونس جائزة نوبل للسلام . نعم، إن دستور تونس الجديد في تقديري، وخاصة بفصوله الأربعة ، ليس بدستور الزمن الحاضر، فحسب، بل هو قابل أن يكون مستداما، لتجاوب مبادئه و أحكامه هذه مع التطلعات المشروعة لجيل زمن اليوم ولأجيال الزمن القادم، الزمن الجميل لتونس، بمشيئتنا الاستباقية لمشيئة الله.