النخب هي من تصنع المستبد ...ليفترسها

لا يأتينا الديكتاتور الا حين نستدعيه نحن." (فارغاس يوسا ، رواية "حفلة التيس)


كتب الروائي المصري ، علاء الاسواني ، مرة اننا لو سألنا المصريين السؤال التالي : "هل تعارض الديكتاتور بسبب استبداده ام بسبب سياساته الفاشلة؟" فان قطاعا واسعا منهم لن يعترضوا على الاستبداد ، الذي يعني سلبهم حريتهم وكتم أصواتهم وترويعهم ، بل يعترضون اذا ما تسببت سياساته في معاناتهم المادية وشظف عيشهم وخصاصتهم ، وذلك يعود الى عدة أسباب ،حسب رائه ، منها انه منذ 1952 ، تربت أجيال على القمع وتأقلمت معه، وحتى لوعدنا الى التاريخ البعيد ، واستثنينا بعض الفترات القصيرة من الانفتاح والحرية النسبية، فان تاريخ الحكام العرب والمسلمين يزخر بالقهر والاخضاع، يرتكب خلالها الحكام العرب والمسلمين جرائم بشعة من اجل الوصول الى الحكم او المحافظة عليه.
والامر لا يخصّ الشعب المصري فقط ، بل ينطبق على الشعوب العربية كافة، حتى التي عرفت بعض فترات الحرية فان كابوس الاستبداد، ظل يتحيّن الفرصة،عبر الدولة العميقة وترسانتها الأمنية والعسكرية،ويخاتل الديمقراطية الهشة ويقنع الناس "بسراب الحرية وعقمها" ، خاصة ان لم تصاحبها تحولات اقتصادية واجتماعية هامة، وهو الان استعاد سطوته وانتقم لسنوات هزيمته شرّ انتقام...
ولكن ماذا عن النخب السياسية والثقافية ؟ هل تختلف نظرتها للديمقراطية والحرية ؟
كل المؤشرات تدل على ان الامر لا يختلف كثيرا، وان ثقافة الديمقراطية لدى النخب هزيلة، ولا اظنّ ان أحدا يختلف مع المفكر الفلسطيني ، عزمي بشارة ، الذي رأى ان فشل الثورات العربية بما جاءت به من فرص فريدة للحرية والديمقراطية والعدالة ، لا تتحمله الشعوبلأنها في مجملها و حتى حسب استطلاعات الراي التي وقعت بعد الانتفاضات العربية ،"لاتعادي الديمقراطية" ، بل وتراها "تلائم بلداننا" وهو ما يكذّب "كل المقولات الاستشراقية والعنصرية" ، لكن المشكل في النخب السياسية والفكرية،"التي لها ثقافة سياسية اضعف من ثقافة الشارع العربي،" الذي تتعالى عليه.
فالنخب السياسية ، يسارها ويمينها ووسطها، التي يُفترض ان تعي طراوة المرحلة الانتقالية وتوجه مسار الثورة وتقيها الارتدادات الخطيرة ، مثل عودة النظام القديم او الانقلابات العسكرية او شهوات مغامرين قد يستغلون ثغرات مسار ديمقراطية لم يشتد عودها فيرون ان الفرصة سانحة للانقضاض على المؤسسات، هي نفسها التي تفسد الانتقال وتميّعه بصراعاتها الهامشية ومعاركها الصغيرة وانانيتها المفرطة، لأنها لازالت تحمل بقايا ارهاصات أيديولوجية اقصائية، لذلك فهي ترى ان الديمقراطية لاتختلف كثيرا عن ثنائية الاستبداد المبنية على "العلاقة الصفرية"(Null Relationship)، تلك النزعة الفكرية التي تقوم على الاعتقاد بان مكسب طرف سياسي يفترض حتما خسارة الطرف الاخر ، أي من حكم بعد الانتخابات حاول اخراس من يعارض، بدعوى ان الشعب منحه كامل الثقة ، ومن عارض لم يقدم بدائل مقنعة ، بل شغل وقته باقتناص الثغرات وانتهاز الهفوات ، واحيانا العرقلة...
شخصيا، اتفق مع هذا التحليل الذي يثبته الواقع في بلدين عرفا انتفاضة شعبية وانتخابات حرة ، وهما تونس ومصر ، فالغرور الذي تمكن من النخب الحاكمة واخفاقاتها في تسيير الدولةبعد فوزها في الانتخابات الأولى ومحاولات العرقلة ونصب الكمائن والتشويه الذي توخته جل الأحزاب المعارضة وبعض النخب المدنية ، كلها عوامل سرّعت في غلق قوس الانتقال الهش وعودة الديكتاتورية.
والحقيقة هناك عقم موروث في تفكيرنا لاننا ، منذ سبعينيات القرن الماضي ، لبسنا ثوب الأيديولوجيا ،دون ثقافة سياسية ، تربينا في محيط من القمع يمنع الحوار والتواصل فتقوقعنا داخل النظريات نبحث عن بدائل جاهزة ، وحتى حين توفرت الامكانية لنغيّر الواقع ، لم نتمكن من التأثير فيه ، نظرا لاغترابنا عنه وتعالينا عليه ، لذلك فضلنا استدعاء مخزوننا الفكري والايديولوجي هربا من محيط لم نفهم متطلباته ولا متغيراته ، وهو ذات المخزون الذي ناكفنا به كل مختلف عنّا، وبنينا عبره الحواجز عوض الجسور التواصل وفضلنا هوس احلامنا الخاصة على المصلحة العامة، فكانت النتيجة مأسوية : لم نشعر بوطن يبتعد عنّا ولا بشعب اعلن فيصمت قطيعته مع السياسة لأننا انهكناه بصراعاتنا الطفولية ومنعنا غرورنا وعنادنا من الانتباه الى مستبدين يتحيّنون الفرصة ... ولما كانت ايديولوجيتنا قاطعة مع الاختلاف ، كارهة للآخر ،فإننا فضلنا الهدم على البناء ، الشعار في ذلك "فليسقط السقف على الجميع".
والان بعد ان ساهمنا كلنا ، بتفاوت ،في غلق قوس الانتقال الديمقراطي وعودة الحكم الفردي وضرب المؤسسات وخنق الفعل السياسي والمدني ، نحن مطالبون بالتحلي بشجاعة النقد الذاتي والقيام بالمراجعات التي تنسّب حقائقنا الثابتة وأوهام نقائنا الفكري واحكامنا القطعية ، فعشر سنوات من الزخم السياسي كان يفترض ان تكون كافية حتى ندرك اننا مدعوون الى التعايش ، احببنا ام كرهنا ، وان نفهم ان السياسة تفترض مراجعات دائمة وتقديم التنازلات والبحث عن المشترك قبل الاقصاء ، مالم نفعل ذلك ، فستتواصل السنوات العجاف ، وتندثر السياسة وتصبح الايديولوجيا اصطفافا وتبريرا للطغيان.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115