بدأت في عام 2025، قطيعةً جذريّة مع سابقتها، بل تُعدّ امتداداً معمّقاً للسمات المميزة التي طبعت أسلوبه السياسي في الداخل والخارج. فسياسة ترامب الخارجية، بعيداً عن اختزالها في سلسلة من الاستفزازات الإعلامية العابرة، تخضع لمنطق داخلي متسق يتسم بأولوية موازين القوى الثنائية، والسعي الدؤوب وراء المكاسب الفورية، وإضفاء الطابع الشخصي المفرط على القرار. هذا النهج، الذي يمكن وصفه بالواقعية المباشرة (réalisme direct)، يُحدث زعزعة في أسس النظام الدولي الليبرالي الموروث منذ عام 1945، ويجبر كل فاعل دولي، سواء كان حليفاً أو خصماً، على إعادة تقييم حدود قدراته وهامش المناورة المتاح له.
وإذا كانت الولاية الأولى قد أعطت ملامح أولية لهذه الواقعية المباشرة، فإن الولاية الثانية تكشف عن نضوج استراتيجي أعمق، حيث تحولت الارتجالية الظاهرية إلى منهجية محسوبة، والتصريحات الاستفزازية إلى أدوات ضغط مدروسة. لم يعد الأمر مجرد رد فعل على إرث الإدارات السابقة، بل أصبح مشروعاً متكاملاً لإعادة صياغة مكانة أمريكا في العالم وفق معايير جديدة تماماً.
الثنائية كأساس للمفاوضات
منذ عام 2017، بدا دونالد ترامب متشككاً بشكل منهجي في المؤسسات متعددة الأطراف، التي يراها قيوداً زائدة على سيادة الولايات المتحدة ومصدراً لإضعاف النفوذ الأمريكي. فالانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، والخروج من الاتفاق النووي الإيراني، والتهديدات المتكررة بالانسحاب من حلف الناتو، إضافة إلى إعادة التفاوض على اتفاقية "نافتا" (NAFTA) لتتحول إلى "يو إس إم سي إيه" (USMCA)، تشكل كلها مظاهر واضحة لهذه العقلية.
وبحلول عام 2025، لم تعد الثنائية مجرد خيار تكتيكي عابر، بل صارت الإطار شبه الحصري للمفاوضات الكبرى على المستوى الدولي. تُتجاوز المؤسسات متعددة الأطراف أو يُستغل دورها حينما يخدم ذلك أهدافاً عاجلة ومباشرة. لم يعد الأمر يقتصر على المساهمة في نظام معياري مشترك، بل أصبح السعي الأساسي يتمثل في تحقيق أفضل عائد ممكن من حيث التكلفة والفائدة لكل دولة، دولة تلو الأخرى، وفق مبدأ صارم للحسابات الواقعية.
تعكس هذه الاستراتيجية الثنائية فهماً عميقاً لديناميكيات القوة في القرن الحادي والعشرين، حيث أصبحت المؤسسات الدولية، في نظر الإدارة الأمريكية، ساحات للمساومات المطولة والتنازلات المتبادلة التي تؤدي غالباً إلى حلول وسط لا ترضي أحداً. بالمقابل، توفر المفاوضات الثنائية قدرة أكبر على الضغط المباشر واستغلال عدم التوازن في القوة، وهو ما يتيح لواشنطن تحقيق مكاسب ملموسة وسريعة دون الحاجة إلى مراعاة مصالح أطراف ثالثة أو الالتزام بإجراءات بيروقراطية معقدة.
قراءة نفعية للنظام الدولي
تنظر إدارة ترامب إلى النظام الليبرالي الدولي، كما تشكّل منذ مؤتمري بريتون وودز وسان فرانسيسكو، باعتباره آلية غير منصفة هيكلياً تجاه الولايات المتحدة. فحلف الناتو يُنظر إليه كآلية تعتمد من جانب واحد على الالتزامات الأوروبية، بينما تُعتبر الأمم المتحدة منصة تتحمل فيها واشنطن الجزء الأكبر من الأعباء المالية من دون مقابل متناسب. أما منظمة التجارة العالمية، فتُرى كمحكمة منحازة أمام الممارسات الاقتصادية لدول كالصين، ما يفرض على الولايات المتحدة إعادة ضبط ميزان النفوذ والقوة.
ويستند هذا النقد إلى حقيقة أن الولايات المتحدة، على مدى سبعة عقود، كانت المساهم الصافي الأكبر في النظام الذي استفادت منه قوى دولية أخرى بشكل غير متناسب. والرد الأمريكي على ذلك يقوم على مبدأ "الحصة العادلة": فكل شريك دولي مطالب الآن بدفع نصيبه من الأعباء، وإلا فإن واشنطن تحتفظ بحق اتخاذ تدابير انتقامية أحادية الجانب لضمان مصالحها الحيوية.
لكن هذه القراءة النفعية تتجاوز مجرد المطالبة بتوزيع أعدل للأعباء، فهي تعكس تحولاً جوهرياً في الفلسفة الاستراتيجية الأمريكية. بعد عقود من الاستثمار في بناء نظام عالمي قائم على القيم الليبرالية والمؤسسات متعددة الأطراف، تعيد الولايات المتحدة الترامبية حساب جدوى هذا الاستثمار. السؤال المركزي لم يعد "ما الذي يخدم النظام الدولي؟" بل "ما الذي يخدم المصالح الأمريكية المباشرة؟". هذا التحول يمثل نهاية لعصر الاستثنائية الأمريكية كراعٍ خيّر للنظام العالمي، وبداية عصر جديد من الحسابات الدقيقة والمعاملات التجارية في السياسة الدولية.
الاعتراف الضمني بمناطق النفوذ
على خلاف المدارس الويلسونية أو المحافظين الجدد، تعترف الرؤية الترامبية بوجود قوى عظمى لها مناطق نفوذ مشروعة، ولا تتدخل إلا عند تهديد مصالحها المباشرة. فالنصف الغربي من الكرة الأرضية، والمسالك البحرية الاستراتيجية في منطقة الهند والمحيط الهادئ، وبعض المواقع في القطب الشمالي، تندرج ضمن المجال الأمريكي. وفي المقابل، تُعطى روسيا حرية التصرف في الفضاء ما بعد السوفييتي، بينما تمتلك الصين مواقع نفوذ استراتيجية في بحر الصين الجنوبي وممرات مبادرة الحزام والطريق.
تستعيد هذه القراءة الواقعية ذكريات الدبلوماسية الأوروبية في القرن التاسع عشر، حيث كان الاعتراف بمناطق النفوذ ممارسة شائعة لتحقيق الاستقرار النسبي. وبخصوص الصراع الأوكراني، ألمحت تصريحات رئاسية متفرقة إلى إمكانية النظر في حلول تفاوضية قد تتضمن تعديلات إقليمية مقابل تنازلات كبيرة في مجالات أخرى، مثل الطاقة والمعادن الحيوية ونزع السلاح.
يمثل هذا الاعتراف بمناطق النفوذ عودة إلى واقعية القرن التاسع عشر، لكن بأدوات القرن الحادي والعشرين. فبدلاً من المؤتمرات الكبرى التي كانت ترسم خرائط النفوذ، كمؤتمر فيينا أو مؤتمر برلين، تُدار اليوم صفقات النفوذ عبر قنوات سرية وتفاهمات ضمنية ومقايضات معقدة تشمل الطاقة والتكنولوجيا والأمن السيبراني. هذا النهج يعترف ضمنياً بأن الصراع على الديمقراطية وحقوق الإنسان، الذي طبع الحقبة الأحادية القطب بعد الحرب الباردة، قد فسح المجال لصراع أكثر كلاسيكية على الموارد والمواقع الاستراتيجية ومناطق النفوذ.
دبلوماسية اللقاء الفوري والحدث الاستراتيجي
تظل إحدى أبرز علامات الأسلوب الترامبي تفضيله للقاء المباشر والمفاجئ، حيث يُعتمد على عنصر الحدث لتفادي الجمود البيروقراطي. من قمم مرتجلة مع كيم جونغ أون إلى اتصالات استكشافية مع حماس عبر القنوات القطرية والمصرية، وصولاً إلى الضغوط الممارسة علناً على بنيامين نتنياهو لوقف إطلاق النار في غزة، يتضح أن النهج يقوم على ثلاثة مبادئ رئيسية: العلاقة الشخصية بين رؤساء الدول، إحداث حالة من عدم اليقين نتيجة صعوبة التنبؤ، والاعتماد على تهديد جاد بالقطع الأحادي.
ويعكس هذا الأسلوب الترامبي فلسفة تقوم على أن القوة الدبلوماسية الفعالة لا تقتصر على القوانين والمواثيق، بل تشمل القدرة على المفاجأة، والضغط المباشر، والتحكم في التوقعات الدولية. وإن كانت اتفاقيات إبراهيم (2020) تشهد على فعالية هذا النهج في بعض الملفات، فإن الإخفاقات المتكررة في شبه الجزيرة الكورية تُبرز حدود هذا الأسلوب وتحديات تطبيقه.
تعتمد هذه الدبلوماسية على افتراض أن الزخم السياسي واللحظة التاريخية يمكن أن يتغلبا على العوائق الهيكلية والخلافات العميقة. إنها مراهنة على قوة الشخصية والكاريزما الفردية في تجاوز المؤسسات والبروتوكولات. لكن هذا النهج ينطوي على مخاطر جسيمة، إذ يجعل الاتفاقات الكبرى رهينة للعلاقات الشخصية المتقلبة، ويفتقر إلى الآليات المؤسسية التي تضمن استمرارية السياسات. فما يُنجز بسرعة قد يُنقض بسرعة مماثلة، وما يُبنى على علاقة شخصية قد ينهار بتغير الأشخاص أو تبدل المصالح.
الغموض كأسلوب حكم
من السمات البارزة للولاية الثانية التهميش التدريجي للمؤسسات التقليدية للسياسة الخارجية. فقد تقلص دور مجلس الأمن القومي ليصبح أداة تنسيق تقنية، بينما تُنشر الاستراتيجيات الكبرى، مثل استراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني، متأخرة أو تبقى سرية. تُتخذ القرارات الكبرى في دائرة ضيقة، غالباً خارج القنوات البيروقراطية الكلاسيكية، وأحياناً في مار-آ-لاغو.
يُحوّل هذا الغموض المتعمد عدم القدرة على التنبؤ إلى أداة دبلوماسية فاعلة، حيث يمنع غياب عقيدة عامة واضحة الشركاء والخصوم من تحديد الخطوط الحمراء الأمريكية، ما يمنح واشنطن مرونة تكتيكية كبيرة في إدارة ملفاتها العالمية.
لكن هذا الغموض الاستراتيجي يأتي بتكلفة باهظة على المدى الطويل. فالحلفاء التقليديون، الذين اعتادوا على التنسيق المسبق والشفافية النسبية في العلاقات مع واشنطن، يجدون أنفسهم في حالة قلق دائم، غير قادرين على التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى. والخصوم، الذين لا يعرفون حدود رد الفعل الأمريكي، قد يُحجمون عن خطوات معينة خوفاً من رد غير متناسب، لكنهم أيضاً قد يجازفون بخطوات أخرى ظناً منهم أن واشنطن لن تتدخل. هذا الغموض يخلق بيئة دولية متقلبة، حيث يصعب على أي طرف حساب تحركاته بدقة.
الأبعاد الجيوسياسية: إعادة نسج التحالفات
أمام هذا المستوى من عدم اليقين الأمريكي، شهدت أوروبا تسارعاً في البحث عن استقلالية استراتيجية، حيث تجسدت النقاشات حول إنشاء دفاع أوروبي مستقل، وتفضّل عدة دول أعضاء في أوروبا الوسطى والشرقية الآن ترتيبات ثنائية مباشرة مع واشنطن بدلاً من الاعتماد الكلي على الإطار الأطلسي التقليدي. هذا التشظي في الموقف الأوروبي يضعف قدرة القارة على التحدث بصوت واحد، ويفتح المجال أمام واشنطن لممارسة سياسة "فرّق تسُد" بشكل أكثر فعالية.
تستفيد الصين من هذا الاضطراب لتعزيز شراكاتها الإقليمية، عبر اتفاقيات مع رابطة الآسيان، واستثمارات ضخمة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، والترويج لرؤية بديلة للنظام الدولي تتسم بالمرونة والتكيف مع مصالح القوى الناشئة. بكين تقدم نفسها كشريك اقتصادي موثوق لا يفرض شروطاً سياسية أو قيمية، وهو ما يجذب العديد من الدول التي تشعر بالإرهاق من الضغوط الغربية المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي الوقت نفسه، تستغل روسيا الاتحادية المرونة الأمريكية لتوسيع نفوذها في شرق أوكرانيا ومولدوفا والمشرق وأفريقيا جنوب الصحراء، من دون مواجهة رد منهجي مباشر. موسكو تراهن على أن واشنطن، المنشغلة بالمواجهة الاستراتيجية مع الصين والمنهكة من حروب الشرق الأوسط، لن تملك الإرادة السياسية للتدخل الحاسم في مناطق تعتبرها ثانوية بالنسبة لمصالحها الحيوية.
التحديات الداخلية والانعكاسات الخارجية
لا يمكن فصل السياسة الخارجية الترامبية عن الديناميكيات الداخلية الأمريكية. فالاستقطاب السياسي الحاد، والشعبوية الصاعدة، والإحساس المتنامي بين شرائح واسعة من الأمريكيين بأن بلادهم قد دفعت ثمناً باهظاً للحفاظ على النظام العالمي، كل هذه العوامل تشكل الخلفية التي تنطلق منها السياسة الخارجية الترامبية. الشعار الشهير "أمريكا أولاً" ليس مجرد خطاب انتخابي، بل يعكس تحولاً عميقاً في الوعي الجماعي الأمريكي.
هذا التحول الداخلي يفرض قيوداً صارمة على أي إدارة أمريكية، حتى لو أرادت العودة إلى النهج الأممي التقليدي. فالناخب الأمريكي لم يعد مستعداً لتحمل تكاليف باهظة لقضايا بعيدة عن حياته اليومية، والكونغرس أصبح أكثر حذراً في الموافقة على التزامات دولية طويلة الأمد. بهذا المعنى، فإن الترامبية ليست مجرد ظاهرة عابرة مرتبطة بشخص واحد، بل هي تعبير عن تيار عميق في المجتمع الأمريكي قد يستمر لعقود قادمة.
التداعيات المستقبلية للنهج الترامبي
السياسة الخارجية لدونالد ترامب ليست وليدة الفوضى أو اللاعقلانية، بل تمثل عودة متعمدة إلى الواقعية المباشرة: أولوية المصالح الفورية، المفاوضات الثنائية تحت الضغط، قبول مناطق النفوذ المتنافسة، وإضفاء الطابع الشخصي المفرط على السلطة.
على المدى القصير، قد يحقق هذا الأسلوب نتائج تكتيكية واضحة ومبهرة، كاتفاقيات تجارية مواتية أو تهدئة مؤقتة لبعض الصراعات الإقليمية. لكن السؤال الأكبر يتعلق بالثمن الاستراتيجي لهذا النهج. فالنظام الليبرالي الدولي، رغم كل عيوبه، قد وفّر للولايات المتحدة نفوذاً ناعماً هائلاً وقدرة على تشكيل القواعد الدولية بما يخدم مصالحها على المدى الطويل. تفكيك هذا النظام قد يحقق مكاسب آنية، لكنه يفتح المجال أمام منافسين استراتيجيين لملء الفراغ وبناء أنظمة بديلة.
أما على المدى المتوسط والطويل، فإنه يساهم في تفتيت النظام الليبرالي العالمي ويعزز ظهور عالم متعدد الأقطاب، حيث تسعى كل قوة لتعظيم مزاياها دون الرجوع إلى إطار معياري مشترك. ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بأولويتها العسكرية والاقتصادية، لكنها توقفت عن كونها المركز الاستراتيجي والأيديولوجي للنظام الدولي، وهو تحول متناقض لكنه ربما الأكثر ديمومة في حقبة "ترامبية" جديدة.
إن المفارقة الكبرى في هذا النهج هي أن محاولة تعظيم القوة الأمريكية عبر التخلي عن دور الراعي للنظام الدولي قد تؤدي، على المدى الطويل، إلى تقويض أسس هذه القوة ذاتها. فالهيمنة الأمريكية لم تكن تعتمد فقط على القوة العسكرية والاقتصادية الصلبة، بل أيضاً على قدرتها على جذب الحلفاء وتشكيل القواعد وتقديم رؤية جذابة للنظام العالمي. بالتخلي عن هذا الدور، قد تجد الولايات المتحدة نفسها في عالم أكثر تنافسية وأقل قابلية للتنبؤ، حيث تضطر للدفاع عن مصالحها بجهد أكبر وتكلفة أعلى.
بقلم أمين بن خالد
ترامب: عصر الواقعية المباشرة
- بقلم المغرب
- 15:11 25/11/2025
- 28 عدد المشاهدات
لا تشكل ولاية دونالد ترامب الرئاسية الثانية التي