بما انها تفعيل للأخلاق في الواقع تحوّلت في تونس إلى مسرحٍ للعبث وبعث لوحات من اللامعنى وانعدام القيمة ٫ إلى مشهدٍ باهتٍ تُعاد فيه الأدوار دون معنى ولا روح. تبدو البلاد اليوم وكأنها تعيش في فراغٍ سياسي خانق، حيث توقّفت دورة الحياة العامة، وذبلت الكلمة، وتحوّل الفعل السياسي إلى مجرّد صدى في قاعة مغلقة ينتظر داخلها الفاعلون السياسيون ساعة الخروج من حالة السراح المؤقت التي هم عليها الآن وتنفيذ بطاقة الايداع بالسجن في حقهم.
1. انغلاق المشهد وموت السياسة
لم يعد في تونس حوار، ولا جدل، ولا صراع أفكار. كل شيء صامت، جامد، مثقل بالريبة والخوف. انغلقت أبواب السياسة كما تُغلق النوافذ قبل العاصفة، وعمّ شعورٌ بأن السياسة نفسها قد ماتت. الأحزاب تحوّلت إلى هياكل عظمية بلا لحمٍ ولا دم، والنقاش العام إلى طقسٍ مملّ يعيد إنتاج الشعارات ذاتها. أما المواطن، فقد انسحب من اللعبة، بعدما أدرك أن صوته لا يغيّر شيئًا وأن «المسار» صار قدرًا مغلقًا لا يُراجع ولا يُناقش.
2. سلطة لا تسمع... ومعارضة لا تتكلم ولا تعمل.
تعيش تونس اليوم حالة من الانفصال التام بين السلطة والمعارضة. سلطة تكتفي بخطابٍ واحدٍ، مغلَقٍ، لا يسمع ولا يُراجع، متقوقعة على يقينها المطلق. لا حوار وطني، لا أفق سياسي، لا مبادرة تفتح نافذة على المستقبل.
وفي المقابل، معارضة مشتتة، منقسمة، غارقة في أنانيتها وخلافاتها الصغيرة. لا مشروع جامع، ولا رؤية، ولا لغة تخاطب الشارع الذي فقد ثقته في الجميع. تبدو المعارضة كما لو أنها تعيش في زمنٍ موازٍ، تتحدث إلى نفسها أكثر مما تتحدث إلى الناس.
3. شارع ميت وروح غائبة
الشارع الذي كان ذات يوم قلب السياسة ونبضها، صار ميتًا. تراجع الحلم الجماعي، وخمدت نار الغضب. الناس اليوم لا تثور، ولا تؤمن، ولا تنتظر. تعيش تحت وطأة اليومي، تسعى فقط للنجاة في زمنٍ قاسٍ فقد فيه الوطن معناه، وصارت الحرية ترفًا مؤجلاً.
لقد فقدت السياسة جمهورها، لأنّها فقدت صدقها. وما الجدوى من الكلام حين يتحول الصمت إلى ملاذٍ جماعي، وحين يصبح التواطؤ شكلاً من أشكال النجاة؟
4. في سيطرة ثقافة الغوغاء
ما زاد المشهد قتامة هو صعود ثقافةٍ جديدة إلى الواجهة: ثقافة الرعاع والدهماء. خطاب يقوم على التشفي والشماتة في المختلف، في السجين والمريض والمقهور. انحدارٌ في الذائقة العامة، وابتذالٌ في الوعي الجمعي جعل من الكراهية مادة يومية في النقاش العمومي.
أُفرغت السياسة من قيمها، وصار الخصم عدوًا، والمنافس خائنًا. اختفت الأخلاق من المجال العام، وحلّت محلّها نبرة الثأر والانتصار للذات الصغيرة على حساب الوطن الكبير.
5. ما العمل؟ هل المبادرات السياسية هي الحل ؟
ما العمل إذن في زمنٍ كهذا؟
أول الطريق هو الاعتراف: الاعتراف بأن السياسة ماتت حقًا، وأن ما نعيشه ليس حياة سياسية بل إدارة يومية للأزمات. بعدها، يجب أن نستعيد المعنى، أن نعيد تعريف السياسة كفعلٍ أخلاقي وإنساني قبل أن تكون سلطة أو منافسة.
المطلوب ليس معجزة، بل بعث روح الحوار الحقيقي، القائم على الاستماع لا على الإملاء، وعلى المشاركة لا على الإقصاء.
على السلطة أن تنزل من برجها العاجي لتسمع، وعلى المعارضة أن تكفّ عن الانقسام وتبني أفقًا جديدًا يلتف حول القيم لا الأشخاص.
أما المجتمع المدني والمثقفون، فعليهم أن يحرروا الكلام من الخوف، وأن يعيدوا للسياسة شرفها المفقود.
السياسة ليست موتًا ولا خصومة دائمة. إنها فنّ الحياة المشتركة، وحين نفقد هذا الفن، نفقد أنفسنا كجماعة وكوطن.
تونس لا تحتاج إلى من يُنقذها من الخارج، بل إلى من يؤمن من جديد بأن السياسة يمكن أن تكون طريقًا للخلاص لا وسيلة للهيمنة.
6. في عدمية المبادرات السياسية ... أو حين تتحوّل النوايا الطيبة إلى أزمات
في المشهد السياسي التونسي الراهن، تبدو المبادرات السياسية التي تتناسل كلّ يوم كأنها أشجار بلا جذور، أوراقها كثيرة ولكن ظلّها معدوم. مبادرات تتزاحم على المنابر، تُرفع فيها شعارات الإنقاذ والحوار والعودة إلى المسار، لكنها سرعان ما تتحوّل إلى جزء من الأزمة ذاتها، لا إلى مدخل للحلّ.
لقد غابت الرؤية الوطنية الجامعة، وتقدّمت الحسابات الصغيرة والأنانيات الحزبية، حتى صارت المبادرة مجرّد وسيلة لإعادة التموضع في خريطة سلطة فارغة من السلطة، أو لافتة لتسجيل حضور في زمن الغياب. وبدل أن تكون هذه المبادرات جسوراً نحو التفاهم، تحوّلت إلى متاريس جديدة تُعمّق الانقسام وتُعيد إنتاج التنافر والتخاصم بين مكوّنات طبقة سياسية فقدت القدرة على الإصغاء، كما فقدت ثقة الشارع فيها.
في غياب مشروع وطني واضح، انخرطت القوى السياسية في معارك إلهاء ديمقراطي، تدور حول تفاصيل شكلية ومسائل إجرائية، وكأنّها تُدار في مختبر سياسي مغلق لا يسمع أنين البلاد ولا يرى أوجاع الناس. وهكذا تحوّلت “المبادرات” إلى مشاهد متكرّرة من العبث السياسي، تُضاف إلى أرشيف العجز الجماعي.
لقد أصبحت المبادرات في تونس مرآةً لعدمية سياسية كاملة؛ تعد ولا تنجز، تُشخّص المرض وتعيش عليه، ترفع شعار الحلول وهي تغذّي الأزمة. وبذلك لم تعد جزءًا من الحل، بل جزءًا من المشكل ذاته — مشكل نظام سياسي مغلق على ذاته، تائه بين الشعارات والوقائع، يبحث عن خلاصه في دوامة لا خلاص منها.
7.في حتمية الصندوق الانتخابي ؛
الصندوق الانتخابي ليس مجرد وعاء زجاجي تُلقى فيه أوراق التصويت، بل هو مرآة ضمير الأمة ومحرار ديمقراطيتها. إنه الآلية الوحيدة التي تُترجم إرادة الشعب إلى سلطة، وتمنح الشرعية لمن يحكم وتُنهيها عمن يحيد عن الإرادة العامة. فحين يكون الصندوق ديمقراطياً، تعددياً، وشفافاً، يصبح الضامن الأسمى للتداول السلمي على السلطة، ويُحول الصراع السياسي من منطق الغلبة إلى منطق المنافسة الحرة والعادلة.
الصندوق الانتخابي هو الفيصل الوحيد بين الأفكار والبرامج، لا بين الأشخاص والانتماءات. إنه ساحة الحوار الكبرى التي تحتكم فيها الشعوب إلى صوتها الحر، بعيداً عن الانقلابات والمغالبة والإقصاء. فمن دونه، تتحول السياسة إلى حلبة صراع، وتُصبح السلطة غنيمة لا أمانة.
وفي الديمقراطيات الحقيقية، لا يُقصى أي طرف سياسي إلا عبر الصندوق نفسه، لأن الإقصاء خارج هذه الآلية هو اعتداء على سيادة الشعب. فالإقصاء المشروع هو ما ينطق به الناخب لا الحاكم، وما يُترجم في ورقة اقتراع لا في قرار إداري أو حكم مسبق.
إن الإيمان بالصندوق الانتخابي يعني الإيمان بالمواطنة، وبحق الجميع في المشاركة، وبأن التداول على السلطة ليس تنازلاً بل شرط بقاء الدولة العادلة. فكلما كان الصندوق شفافاً، كانت الديمقراطية سليمة، وكانت الدولة أقرب إلى الناس وأبعد عن الاستبداد.
فليكن الصندوق الانتخابي ميزاننا الوحيد، وحكمنا الفصل، وطريقنا الآمن نحو التغيير، لأنه وحده من يجعل السياسة حياةً لا صراعاً، والديمقراطية وعداً لا وهماً. الحقيقية، لا يُقصى أي طرف سياسي إلا عبر الصندوق نفسه، لأن الإقصاء خارج هذه الآلية هو اعتداء على سيادة الشعب. فالإقصاء المشروع هو ما ينطق به الناخب لا الحاكم، وما يُترجم في ورقة اقتراع لا في قرار إداري أو حكم مسبق.
إن الإيمان بالصندوق الانتخابي يعني الإيمان بالمواطنة، وبحق الجميع في المشاركة، وبأن التداول على السلطة ليس تنازلاً بل شرط بقاء الدولة العادلة. فكلما كان الصندوق شفافاً، كانت الديمقراطية سليمة، وكانت الدولة أقرب إلى الناس وأبعد عن الاستبداد.
فليكن الصندوق الانتخابي ميزاننا الوحيد، وحكمنا الفصل، وطريقنا الآمن نحو التغيير، لأنه وحده من يجعل السياسة حياةً لا صراعاً، والديمقراطية وعداً لا وهماً
بقلم: خالد الكريشي