على هامش ذكرى المؤرّخ والمفكر الكبير الراحل محمّد الطالبي تجديد التفكير في الدّين من أجل الحرية والتقدّم والتعايش بين المختلف

بقلم:محمد الكحلاوي 

مرّت منذ أيّام ذكرى وفاة المؤرّخ والمفكّر الكبير

الأستاذ محمّد الطالبي (1921 – 2017) الذي عرفته الجامعة التونسية باحثا متميّزا في التاريخ وقراءة التراث وتجدي الفكر الإسلامي والاجتهاد في الدّين دفاعا عن القرآن كما أنزله الله بعيدا عن ملابسات أقوال أصحاب الفرق والمذاهب من المتكلمين والفقهاء والمفسرين والدعاة، وقد دافع كذلك عن العقل والحرّية والمسؤولية والتسامح والحوار، منطلقه في ذلك البحث في التاريخ الإسلامي لبلاد إفريقية والمغرب.

1- في التاريخ وخصائص المشروع
كان الطالبي رائد التأسيس لمدرسة اسطوغرافية مغاربية رائدة في قراءة تاريخ بلاد إفريقية والمغرب والعالم الإسلامي، وفي الدراسة العلمية المنهاجية للحضور العربي الإسلامي في في بلاد المغارب والأندلس، طوّرها لاحقا، علمان كبيران هما: عبد الله العروي وهشام جعيط، لقد انطلق الطالبي في بحث تاريخ الفترة التأسيسية من تاريخ إفريقية العربية الإسلامية وسياق بدء مجد الحضارة الإسلامية فيها منذ فجر الخمسينات، ليتوّج ذلك بأطروحته الرائدة التي قدّمها بجامعة السربون بباريس سنة 1968، في تخّصص التاريخ الوسيط بالمعنى الزمني الحضاري للكلمة، وكان محورها "الدولة الأغلبية: دراسة في التاريخ السياسي للأغالبة". وبعد ذلك بالتوازي مع مسيرته الرائدة في الجامعة التونسية التي كان من أبرز بُناة صرحها أنجز دراسات تاريخية وحضارية مهمة حول تحولات المجتمع والحياة السياسة تتعلّق بواقع بلاد المغرب العربي، ثمّ بعد ذلك تعمّق في مجال الإسلاميات (الدّراسة العلمية المنهجية للعلوم الإسلامية؛ التفسير وأصول الدين والفقه وأصوله، والتصوّف)، فعرف ببحث علاقة الفقه والاجتهاد وقراءات القران وتفسيره بالتاريخ وبالواقع الاجتماعي. ومن ثمّ نفذ إلى البحث النقدي في قضايا الفكر الإسلامي وتجديد التفكير الدّيني، ورفض القراءات المتشدّدة لفقه الشريعة ولروح العقيدة ولتعاليم الدين ومثله، فعمل على نقض تلك الاجتهادات المتشدّدة في الدّين التي تستند إلى الأحاديث النبوية الموضوعة وأقوال من تقدّم من أئمة المذاهب، معتبرا ذلك مجرّد اجتهادات بشرية وآراء خاصّة، تحكّمت في ظروف الحياة وطبيعة المذاهب السائدة، ووجّهتها المصالح الفردية ومقتضيات الولاء المذهبية فانتصر الطالبي للقرآن وللإنسان ولحرّية الضمير والفعل الخلّاق والفكر المجتهد، بعيدا عن احتكار الدّين في رؤية مذهبية بعينها تتدّعي الصواب والاعتدال، أو تتدّعي امتلاك الصواب واحتكار التأويل الصحيح للإسلام.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الراحل محمّد الطالبي تميّز بل كان رائدا، تفتخر بانجازاته النخب الأكاديمية والثقافية التونسية، في ثلاثة مجالات كبرى ومهمّة، كانت له فيها اليد البيضاء وال‘نجاز المفيد، وهي:
- كان من أوائل الأكاديميين المفكرين التونسيين مشاركةً في ملتقيات الحوار الإسلامي المسيحي، مدافعا عن الصورة النيّرة للديانة الإسلامية في تسامحها واعتدالها وقبولها بالآخر المختلف، والدعوة إلى المجادلة بالحسنى، كما نصّ على ذك القرآن الكريم، وله في ذلك مؤلفات ومحاضرات رائدة، منها ما نشره مركز الدّراسات والبحوث والاقتصادية والاجتماعية (السيراس). وقد أنجزنا معه في الغرض حوار فكريا مطوّلا، نشرته مجلّة الحياة الثقافية، في زمن من أزمان مجدها، عدد فيفري 1996. ولقد كانت أبرز فكرة في ذاك الحوار الذي أنجزنا مع الطالبي؛ اشتراك الأديان الكتابية منها خاصّة في أسس ومبادئ إنسانية وفي مثل عليا تحتّم ضرورة الحوار والتعاون بينها لأجل استقرار الإنسانية على أسس العدل والسلام وتحقيق التقدّم والرقيّ للبشرية جمعاء.
- ابتكاره لمفهوم "القراءة السهمية" للقرآن الكريم التي تدعو في إطار رؤية تقوم على الفهم العميق لمقاصد النصّ والمثل العليا التي جاء بها إلى الاتجاه إلى الاتّجاه فهم عميقا وتأويلا دقيقا إلى المعنى الأمثل الذي يوافق القصد الأسمي لروح الدين وخطاب الله. وذلك عبر نظر العقل ومن خلال سعة الاطلاع ومراعاة لمطالب الذّات الإنسانيّة. وقد تكلّم في ذلك في أكثر كتبه، لاسيّما منها "أمّة الوسط"، بحثا منه عن فكر نيّر منفتح واجتهاد متجدّد، بيجاوز التقليد والتشدّد ويقطع مع التوظيف السلبي لتعاليم الرسالة، كما هو الأمر لدى الحركات الإسلاموية التي تريد ان تحكم الناس وتهيمن باسم تطبيق الشريعة، والشريعة من ذلك براء.. وللطالبي في ذلك بحوث رائدة.
- دفاعه من منطلق منظور المؤرّخ العالم بتاريخ الإسلام ونشأة علوم الدّين وتكوّن متونها المعرفية وأساليبه الحجاجية عن القرآن الكريم، دون حاجة للأحاديث الموضوعة والملفقة. لقد ركّز على القرآن بوصفه دينا مقدّسا ورسالة من الله ختمت الرسالات السماوية على يد رسول الإسلام محمّد عليه الصلاة والسلام. ومن ثمّ فلا معنى إطلاقا لتصديق كلّ ما رُوي وجُمع ودُوّن وصُنّف على أنّه من الأحاديث النبوية التي قالها رسول الإسلام. فذلك محال ويتعارض وروح الدّين ولا يصدّقه منطق التاريخ والعلم، فما دوّن في كتب الحديث خضع للتلفيق وللزيادة والنقصان والوضع وهذا بشهادة كثير من علماء الإسلام مذ عهوده الأولى. ولذا فإنّه من المحال، وعلى عكس القرآن الكريم الذي دُوّن مبكرا وتعهد الله بحفظه، أن يظلّ دين الله رهن نصوص أحاديث نبوية متداولة شفاهيا لأكثر من قرنين، ثمّ يأتي من يزعم أنّه دوّنها صحيحة النسبة في كتب تُنعت بـ: "الصحاح"، فجوهر الإسلام هو القرآن... ولذا أنشأ الطالبي مجموعة بحث علمي هدفها التوصّل إلى أحكام نزيهة وعلمية في الغرض نعتها بجمعية "المسلمين القرآنيين".

2- في تجديد الفكر والاجتهاد والفهم المقاصدي
امتاز الطالبي بالتجديد في علوم الدّين وأحكم نقد منهج القدامى الذي يقوم على النقل والاجترار وتكرار أقوال ما تقدّم والانتصار لآراء أصحاب المذاهب، فبدا حداثيا متنوّرا متفرّدا، رغم عمق شعور الإيمان لديه، وحرصه على أداء طقوس الشريعة وأركانها صلاة وصياما وعبادة دائمة ذكرا وتلاوة، وقد واكبت لديه ذلك عن قرب، أيام إجرائي للحوار المطوّل معه أو عند سكناي بضاحية باردو.
ولعلّه من ثمّ جاءت كتب محمد الطالبي لترسي معالم نهج متفرّد يجمع بين النزعة الإيمانية العميقة والتطلّع إلى حداثة الفكر وتجديد آفاق النظر العقلاني في ما ساد من اعتقاد وتمّ تداوله من أقوال وأحكام اعتبرت من جوهر الشريعة في الإسلام، وهي في الأصل من وضع الفقهاء وتلفيق الأتباع والدعاة باسم الدّين، ذلك ما دفع ببعض الباحثين المرموقين في الفكر الإسلامي من أساتذتنا وأعني منصف بن عبد الجليل إلى استنتاج مفاده أنه هناك ما يجمع بين الطالبي وفضل الرحمن المفكر الهندي الباكستاني الحداثوي المجّدد في الدين وقراءة القرآن من منطلقات إيمانية مقاصدية خالصة، ووفق نظرة علمية معاصرة.
يقول منصف بن عد الجليل بحث علمي له: "إنّ ما يبرّر الجمع بين فضل لرحمن والطالبي، اشتراكهما في أكثر من جانب بَنيا عليه رؤيتهما؛ اشتركا في النظرة التاريخية إلى الرسالة القرآنية وإلى التجربة المحمدية على حدّ سواء، وفي النظرة المقاصدية إلى تعاليم القرآن وأحكامه وفي التشبّث بقداسة النصّ القرآني بتمامه و(كذلك) في الدعوة إلى التحرّر من أعمال الفقهاء والمتكلّمين القدامى (وأكثر الجدد) لأنّهم حجبوا المقاصد بإجحاف شديد وفي التفكير من داخل رؤية إيمانية بما يمنح الضمير الإسلامي حرّيته في نفس الوقت" (منصف بن عبد الجليل، مساهمة المعاصرين في تجديد الفكر الإسلامي، بحث صادر ضمن، حوليات الجامعة التونسية، كلية الآداب منوبة، العدد 45 جانفي 2001، ص 61 – 62).
من ناحية أخرى تظهر طرافة فكر الطالبي في كونه يرى أنّ المقصود من الدّين وإقامة حدود الشريعة وادّعاء تطبيق أحكامها التي أغلبها محلّ خلاف مشروط بظرفيات تاريخية واجتماعية معيّنة. إنّ المقصود من الدّين ليس الحكم ولا السيطرة ولا العنف، "إنّما ما يحقّقه من إخلاقية ومبادئ المساواة والعدل والمسؤولية" البحث السابق ص 74. ومن ثمّ لا معنى أن ننتصر في نظر لطالبي للفهم الحرفي بدل إدراك المقصد أو الفهم المقاصدي العقلاني لتجاوز التشكّل التاريخي المذهبي المتشدّد للدّين في أحزاب ومذاهب، ولتحرير العقول والأفراد من سلطة المذاهب الدينية وفقه الأحاديث الموضوعة وآراء الفقهاء المتعصبين. إنّه علينا دحر حمى الإسلام السجالي العنيف الذي همّه حكم المجتمعات وتطبيق أحكام أصحاب المذاهب ووفقه الجماعات الإسلاموية ووأد الحريات ومنع الفنون والجماليات ومصادرة حرية الفكر وإطلاق الُّلحى وكتم صوت المرأة ومدّ الجلابيب والنقاب و"العبايات" و...
فضمن هذا السياق كان كتاب الطالبي الرائد "ليطمئن قلبي"، الذي محوره مسلة الاعتماد على مناهج العلوم الإنسانية والبحث في سبل تطبيقاتها في مجال دراسة الظّواهر الدّينية
وطبيعة الاستنتاجات العلمية التي يتوصل إليها الباحث من جهة علاقة حياة الفرد بالمعتقد الدّيني، وضمان سبل التحرّر الخلّاق واحترام الاختلاف في المعتقد والرؤية, وإن يلتقي في هذا الكتاب الذّاتي بالموضوعي والعلمي بالإيديولوجي والدّيني الخالص بما هو غير ذلك.
وإن بالغ الأستاذ الطالبي في كتابه هذا، عندما اعتبر أصحاب الآراء الجريئة في نقد الخطاب الديني السائد وفي مجال القراءات العقلانية النقدية العلمية لتراث التفسير والفقه وعلوم القرآن بمثابة "منسلخين عن الإسلام"، فقد كان متشدّدا في ذلك بدوره، إذ الأولى ترك الخلاف حول المعرفي والعلمي وسائر أشكال الاجتهاد والتأويل في دائرة الفكر والحوار والحجاج العقلي والجدل المعرفي.. طالما المخالف لم ينكر العقيدة ولم يكفر بوجود الله ولا بنبوّة الرسول الخاتم... فالخلاف يأتي ضمن مسار البحث. ووفقا لما قال الأستاذ بن عبد الجليل، في المرجع المذكور أعلاه، إنّه يأتي بحثا عن "فهم يرتقي بالرسالة إلى مرتبة المقاصد الإنسانية العليا (لـ) يمنح المؤمن باعتباره شخصا حقّه في الفعل المبتكر والتجديد الخلّاق والمخالفة الطبيعية مناسبة لتبدّل الأحوال وتحقيق الانسجام (ومن ثمّ) العمل (المثمر) مع بني جنسه".
3- مؤلفاته
وهكذا تعبيرا منه عن آرائه الجادّة، واجتهادا منه في الدّين وتجديد التفكير الديني في الإسلام، وضع الأستاذ الطالبي مؤلفات كثيرة، أبرزها كتاب "عيال الله: أفكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه و بالآخرين" (1992) الذي كان عبارة عن حوار مطوّل أجراه معه الصديقان الأكاديمي المتميز شكري المبخوت والأديب الإعلامي المبدع حسن بن عثمان. و"أمة الوسط: الإسلام وتحديات المعاصرة" (1996). و"الصّراع اللاّهوتي في القيروان أيّام الأغالبة (2017). "قضيّة الحقيقة" (2015). "دليل المسلم القرآني" (2017). هذا فضلا عن مجموعة كتب كثيرة بدءا من أطروحته.
وللإشارة فبحوثه ومؤلفاته في اللغة والآداب والحضارة العربية، تمتد من نشره وتحقيقه لكتاب: "المخصص لابن سيده: دراسة دليل"، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، تونس، 1956. ثمّ تحقيقه لكتاب "الحوادث والبدع" لمحمد بن الوليد الطرطوشي أبو بكر، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، تونس، 1959. أيضا "تراجم أغلبيّة مستخرجة من مدارك القاضي عياض"، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، تونس، 1968. و"منهجية ابن خلدون التاريخيّة"، دار الحداثة للطباعة والنشر، بيروت، 1981. كذلك "الحضارة الإسلاميّة في العصر الوسيط"، كلية العلوم الإنسانية، تونس، 1982. إلى غير ذلك من المؤلفات التي تدفع وتحتّم دراسة فكر الطالبي وقراءة ما صنّف قراءة علمية مفيدة، في إطار من التحليل المنهجي العلمي الرصين والعميق وفي ضوء أدوات معرفية ومنهاجية حديثة مساعدة...

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115