على هامش اليوم الدّراسي اليوم الدّراسي العلمي "أكوان المنصف الوهايبي: مقاربات وقراءات" الوهايبي بين شعريّة الإبداع وجمالية الفكر النقدي

بقلم: محمّد الكحلاوي (أستاذ بجامعة قرطاج) 

1)- من صور مرايا منصف الوهايبي
لعلّ عموم القراء وأكثر أهل الثقافة والإبداع والفكر، بالنسبة إليهم،

بالنسبة إليهم، يُعتبرُ المنصف الوهايبي الأستاذ الجامعي المتميّز: تخصّص نقد الشعر القديم والحديث وعضو المجلس العلمي لمؤسسة بيت الحكمة للعلوم والآداب والفنون، وجه ثقافي إبداعيّ مشهور في الشعر والنقد وكتابة السرد الرّوائي. والصورة الأكثر شيوعا وسطوعا هي الوهايبي الشاعر الحداثي المبدع الذي ركب صهوة القول الشعري وإبداع القصيد وحمل لواء التحديث في مجال كتابة الشعر شكلا ومضمونا؛ فنّا ومعاني.. بدأ ذلك منذ منتصف سبعينات القرن العشرين.. ليظهر لاحقا ومن خلال ضرب من الانزياح عن عالم الشعر - وكأغلب كبار شعراء عصرنا- ميل إلة فنّ الرواية، فكتب الوهايبي سرديات روائية فريدة من نوعها، جاءت شكلا فنيّا ودلالات فكرية نقدية عميقة على واقع مأزوم وشهد تشظّي للذّات الجماعية، بعد أن كادت تعصف بها إديولجيات متطرّف دينيّة إسلامويّة ويسراويّة باتت محنّطة، تشهد انفصاما بين يوطوبيا الثوري وقتامة الواقع، ولم تقدر أطروحاتها على استيعابه في مستوى التمثّل المعرفي، وأخرى ليبيراليّة متقلبّة لا تحرّكها إلّا مصالح ظرفية وفكرها لا يتجاوز مقولات تُردّد ترديدا أجوف..
تفاعلا مع ذلك الواقع المستحدث كانت رواية الوهايبي البديعة "ليلة الإفك" (الصادرة في 2015)، التي بنيت في تقديري على استعارة عميقة الدلالة في نقد حكم من آلت إليهم الأمور بعد 14 جانفي 2011، استعارة بعيدة المقاصد الدّالة، بالنسبة إلى تلك الظرفية التي كُتبت فيها، حيث رُفعت شعارات الحداثة والتقدّم في تلك الفترة دون أن يكون لها ما يماثلها في الواقع.. وللإشارة فإنّه بالتوازي مع ذلك أصدر الوهايبي مجموع مقالات في صحف ودوريات حول تيه المسار الذي مضت فيه تونس بعد ما جدّ في جانفي 2011 وعلى إثر ما ظهر من إطلالات مخيفة على مدارات رعب معتّمة (جسّمها خاصة المدّ السلفي...) والتقت مع بدء ظهور انكسارات يوطوبيا الأحلام الكبرى...
وللتذكير فإنّ الوهايبي قد أصدر من قبلُ كذلك عملين روائيين، قرأت بإعجاب واحدة منهما، وأعني "عشيقة آدم" الصادرة سنة 2012. والأخرى وسمت بعنونة جاءت في قالب سؤال؛ كالآتي: "هل كان بورقيبة يخشى حقّا معيوفة بنت الضاوي"؟ (2011) لم تتح لي فرصة قراءتها...
... كنت أيّامها وأنا أقرأ مقالات الوهايبي التي تصدر من حين إلى آخر في دوريات وصحف تونسية وأحيانا عربية.. أتذكّر زمن بدء تعرّفي وكثير من أبناء جيلي بكتابات الوهايابي، منذ فجر تسعينات القرن العشرين، ونحن مازلنا طلبة لم نحصل بعد على الإجازة، نتحسّس الطريق إلى عالم الإبداع والفكر والنقد.. وكنّا على نهج الأجيال التي سبقتنا نبادر إلى قراءة كلّ ما يتوفر لنا، ونسارع إلى الاطّلاع على كلّ جديد يصدر، أيضا نطالع ما يصدر بملاحق الورقات الثقافية والصحافة الأدبية، فكانت تأسرنا إضافة غلى النصوص الإبداعية سردا وشعرا لغة بعض النقّاد الجامعيين المرموقين الذين غدت صلتهم بالإبداع والفنّ وطيدة، ولعلّ من أبرزهم الراحل توفيق بكّار سيّد الجماعة ومن صار على نهجه أو في ركبه كالرّاحل محمّد الغزّي ونقّاد السرد ومن أبرزهم محّمد القاضي .. وهكذا ضمن هذا السياق مع نجم الشاعر الناقد المبدع منصف الوهايبي الذي كان يشدّنا جمال تركيبه وحسن سبكه لنسيج نصّه وعمق الرؤية التي عليها يشتغل وطرافة الفكر ووجهة الرأي المستخلص.... فكان الكثير من أبناء جيلي شديد الاهتمام يهتمّ بما يكتب الوهايبي بوصفه أحد حملة لواء حداثة الكتابة الشعرية العربية بتونس، ويتحمّس للإطلاع على جديد نقده وفكره وشعره، بحثا عن تجلّيات مظاهر الحداثة وجماليات التحديث صورة ومعنى، وكيف تفاعلت مع منابت التأصيل في مستوى مرجعية الكتابة والعلاقة بالسنن الشعرية القديمة، وقد اشتهرت من نصوصه في تلك الفترة "مخطوط تمبكتو" (1998) و"ميتافيزيقا وردة الرمل" 2000)...
2)- شعر الحداثة ومدرسة القيروان: النزعة الصوفيّة وجدليات التأصيل والتحديث
ولقد صار معلوما من قبل اعتبار الوهايبي واحد من مدرسة القيروان الجديدة في الشعر العربي الحديث والأدب والمسرح مع محمّد الغزّي والأخوين القهواجي (بشير ثمّ حسين) وعبد العزيز الحاجي ثمّ صلاح الدّين بوجاه.. وغيرهم.. وهي مدرسة بدت ذات صلة بالتراث القديم الأدبي والفلسفي الكلاسيكي، منفتحة على متون النصوص الصوفية والكتابات العرفانية لدى شعراء القيروان وزهادها الأوائل، إذ ظهرت الحاجة وتبعا إلى مطالعة أعمال كبار شعراء الصوفية من أساطين الحكمة الإشراقية والعشق الصوفي في أبعاده الكونية القصوى لدى ابن عربي والسهرودي وجلال الدين الرومي وعبد القادر الجيلاني، ومن قبلهم الحلّاج ورابعة والنفّري والبسطامي إلى إعادة الروح إلى هذا التراث ووصل بقضايا الإنسان المعاصر والبحث فيه عن قيم وجماليات مجدية، زمننا يحتاجها أكثر يوما بعد يوم، وهو ما كان صدى منه حاضرا في أحد أبرز مجموعات الوهايبي الأولى "ألواح" (1982)... وقد حاول الوهايبي على طريقة الشاعر العراقي عبد الهاب البياتي وأدونبي أن يربط الرّوح الصوفيّة العالية بنزعة ثورية تقدّمية في الفكر والحياة والحرية والتجديد، حين اعتبر أنّ حداثة الشعر العربي قد تستلهم من التصوّف والتراث الفكري العرفاني والروحي، دون تماثل وتطابق تامّ، بل لأجل النزوع إلى خلق فعالية جمالية شعرية ثورية تخلّص الشعر من أن يكون "تابعاً للفعل لأنه هو في حد ذاته فعل" ولاسيّما وانّه بإمكان الشعر العميق المتفرّد فنّا المميّز لغة ومعنى أن "يستوعب لحظته التاريخية (ويصبح) قادراً على الإفلات منها ليتنزل في منزلة الملحمة الخالدة".
وفي معرض ذلك كان الاهتمام الطريف للوهايبي نقدا وبحثا بأعمال أدونيس شاعرا وناقدا ومفكّرا لاسيّما من جهة صلة مشروعه الإبداعي والفكري بالكتابة الصوفية العربية والإسلامية التي اعتبرها خير أفق للتأسيس الجديد لشعرية الفكر وجمالية اللغة والشكل في القصيدة العربية المعاصرة، إذ عبرها يمكن رسم أفق أوسع للإبداع الشعري العربي، يكون سنده ومداره الرؤيا الكشفية العرفانية الصوفية بوصفها إطلالة على مدار المعنى الكلّي وأفق موجد الذّات وكمال الإدراك وتحقيق الذّات المتطلّعة للكمال جماليّا ودلاليّا وإتيقيّا...
وأذكر أنّه ولعا منّي بهذا الأفق المميّز الذي أسّس له أدونيس وما دار حوله من النقد واختلاف وجهات النظر التي كان نقد منصف الوهايبي بعدا محوريّا من أبعادها، حرصت حين كلفتني وزارة الثقافة بإعداد عدد خاص من مجلة الحياة الثقافية حول "التصوف في الفكر والإبداع والتاريخ" (صدر في شهر فيفري 2000)، على أن يكون الوهايبي من أبرز المشاركين، وشددت الرحال إليه بمدينة القيروان، ليمدّني بعد احتفاء جميل منه بشخصي، ببحث في الغرض، وسم بـ: "التجلّيات الصوفيّة في قصيد الجسد عند أدونيس"، نُشر بالعدد المذكور.
3) – من فعاليات يوم أكوان المنصف الوهايبي
جاء في الورقة التقديمية لليوم الدّراسي الذي نظّمه قسم العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة - سوسة بتنسيق محكم للأستاذ حاتم الفطناسي إنّ: القول الشعري يصدر عن المنصف الوهايبي، من بين الذائقة الجمالية القديمة إيقاعا ورؤية والتجربة الإبداعية الحديثة في أحدث مظاهرها وتلويناتها... يبادرك نصّه الشعريّ. وبين القصيد والسرد والتّخييل والحالم والملتزم والإنسانيّ المتعالي والسياسيّ النضالي يتراءى لك مشروعه. وبين النقدي المعرفيّ الأكاديميّ والإبداعيّ التشكيليّ الفنّي تظهر لك صورته.
إنّه المنصف الوهايبي الواحد المتعدّد الثابت المتحوّل، قد غدا عنوانا أساسيا من عناوين الحركة المعرفيّة والإبداعية التونسيّة والعربية متجاوزا البعد المحليّ والوطني، ورابيا على البعد الثقافيّ القوميّ ذاته نحو البعد الإنسانيّ والعالميّ.
هكذا تكوّن ثراء تجربة وتعدّدها، تلك التجربة التي كان سندها قوّة إحاطته بالتراث العربيّ وشدّة مراسه له وانفتاحه في ذات الآن على الإنسانيّ وعمق إحساسه به، لينتصب الوهايبي، الشاعر والنّاقد والأكاديمي، علامة أساسيّة من علامات المشهد الثقافيّ والإبداعي العربيّ. ويتحوّل بذلك إلى وجهة بحثيّة ومشروع نظر مخصوص بالوجاهة والضرورة. من ثمّ كان تناول مشروعه الإبداعي والمعرفي النقدي من خلال المحاور:
- التجربة الإبداعيّة الشعريّة بين التنميط والتجريب.
- التجربة الإبداعيّة السرديّة بين المرجعيّ والتخييليّ.
- التجربة النقديّة المعرفيّة بين التراثيّ والحداثيّ.
- التجربة النضاليّة بين الذاتيّ والإنسانيّ.
ذلك ما كان محور اليوم الدّراسي، بدءا من كلمات الجامعة وعميد الكلية الأستاذ محمّد بوهلال ورئيس القسم الأستاذ رضا حمدي، والمنسق الأستاذ حاتم الفطناسي. ليُفسح المجال من بعد للمدخلات العلمية التي قدّمها الأساتذة: أحمد الجوّة، "قصار القصائد في نماذج من شعر الوهايبي". رضوان البريكي "منصف الوهايبي مترحّلا"، ونّاسة النصراوي: "المنصف الوهايبي شاعر أزمنة الضيق". حياة الخياري "الرّمز وتمثّلاته الثقافية في نماذج من شعر الوهايبي". جميل بن علي "شعرية الذاكرة في ديوان بالكأس ما قبل الأخيرة". فتحي النصري "التأثير في شعر الوهايبي". سمير السحيمي "تخييل الفضاء في نماذج من شعر الوهايبي". شيراز دردور "المنهج النقدي عند الوهايبي بين التراث والحداثة". رياض خليف: السارد للجميع في روايات الوهايبي". عبد الوهاب لاشتوي "من خصائص الكتابة الشعرية عند الوهايبي".
هكذا تعدّدت صور الاتشتغال على كتابة شعرية حالمة متأملة، تحفر في ذاكرة المكان لتي يحاول أن يتمثل صورتها ودلالتها في الذاكرة والتاريخ وفي ممكن الدلالة والوجدان وحيرة الفكر.
جاء في مداخلة الصديق حاتم الفطناسي التي تلقيت نصّها، وقد نشر جلّها، تقديما لكتاب منصف الوهايبي "حياة الأغاني: مداخل لقراءة أبي القاسم الشابي"، الذي يعدّ من آخر إصداراته عن "دار نهاد للنشر والتوزيع"، أنّ الشعر في تجربة الوهايبي حساسية جمالية، سمات وملامح ومنطق، بل مبادئ لا ثبات لها ولا حدّ. سماتها الاعتراض على الحاضر الأدبي أو مخالفته باعتباره قديما أو متجاوزا، ولا سبيل إلى ذلك إلّا اعتبار الحاضر المنشود أكثر حضورا، ويعانق الجمالي ويتفاعل مع الأفق المعرفي والكوني، يحاول أن يتجاوز اللبس والتيه، يطرح التساؤلات المحيّرة، والإرباكات، ويمارس أشكالا من الإقناع والتأسيس ممّا لا يكون إلّا عنتا ورهقا... وكذا يتولّد مفهوم الحداثة وبترحّل في الزمن، إذ لكلّ عصر حداثته ومحدثاته. ولكلّ أدب ثقافته وحداثته وقدامته.

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115