بابا من إفريقيا: هل يحقق الفاتيكان المفاجأة ؟

بقلم أمين بن خالد - محامٍ ودبلوماسي سابق
لنكن واضحين منذ البداية، لا أحد يستطيع التنبؤ بمن سيكون البابا القادم.

ومع ذلك، مع اقتراب المجمع المغلق لانتخاب خليفة البابا فرانسيس، تتزايد التساؤلات حول إمكانية اختيار بابا من إفريقيا للمرة الأولى في العصر الحديث. هذا الاحتمال يأتي في سياق تحولات ديموغرافية ودينية عميقة، قد تعيد تشكيل ميزان القوى داخل الكنيسة الكاثوليكية، وتضعها أمام خيارات مصيرية تحدد هويتها في القرن الحادي والعشرين. فهل ستتمكن الكنيسة من تجاوز تقاليدها الأوروبية الراسخة، أم أن التغيير سيظل مؤجلاً في ظل تعقيدات سياسية وثقافية داخل الفاتيكان؟
إرث إفريقي منسي: جذور مبكرة للكنيسة
على عكس الصورة النمطية التي تربط الكنيسة الكاثوليكية بأوروبا، فإن تاريخ المسيحية الأول شهد مساهمات بارزة من شمال القارة الإفريقية التي كانت مركزًا فكريًا وروحيًا في العالم المسيحي. فقد تولى ثلاثة بابوات من أصول إفريقية منصب الحبر الأعظم في القرون الأولى: البابا فيكتور الأول (189-199 م)، والبابا ميلشيادس (311-314 م)، والبابا جيلاسيوس الأول (492-496 م). هؤلاء البابوات، الذين جاءوا من مناطق في شمال إفريقيا مثل قرطاج، لعبوا أدوارًا حاسمة في صياغة العقيدة المسيحية. فعلى سبيل المثال، اشتهر البابا فيكتور الأول بتثبيت الاحتفال بعيد الفصح في يوم الأحد، بينما ساهم ميلشيادس في تعزيز مكانة الكنيسة بعد إعلان الإمبراطور قسطنطين حرية العبادة. أما جيلاسيوس الأول، فقد عزز استقلال السلطة الروحية عن السلطة الإمبراطورية، ممهدًا لفكرة الفصل بين الكنيسة والدولة.
كانت قرطاج، إلى جانب الإسكندرية، مركزًا للاهوت المسيحي، حيث ازدهرت كتابات آباء الكنيسة مثل القديس أوغسطينوس، الذي شكل الفكر المسيحي لقرون. لكن مع ترسيخ مركزية روما كعاصمة روحية وسياسية للكنيسة، ومع تراجع نفوذ شمال إفريقيا بعد الفتوحات الإسلامية في القرن السابع، أصبحت القيادة الكنسية حكرًا شبه تام للأوروبيين، وتوارى الإرث الإفريقي في طيات التاريخ.
اليوم، يعيد النمو السريع للكنيسة في إفريقيا إحياء هذا الإرث المنسي. ففي ظل دعوات متزايدة لتجديد وجه الكنيسة ليعكس تنوعها العالمي، أصبح الحديث عن اختيار بابا إفريقي رمزًا للانفتاح على واقع جديد. لكن هذا الانفتاح يواجه تحديات عميقة، سواء من الهيكلية المحافظة للفاتيكان أو من الانقسامات الداخلية بين التيارات المختلفة داخل الكنيسة.
واقع ديموغرافي جديد: صعود إفريقيا
تشهد الكنيسة الكاثوليكية تحولاً ديموغرافيًا غير مسبوق. فبينما تتقلص أعداد الكاثوليك في أوروبا، موطن الكنيسة التاريخي، تزدهر الكنيسة بوتيرة مذهلة في إفريقيا. وفقًا لإحصاءات الفاتيكان لعام 2023، يبلغ عدد الكاثوليك في العالم حوالي 1.4 مليار نسمة، منهم نحو 20% (أي حوالي 280 مليونًا) يعيشون في إفريقيا. ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 25% أو أكثر بحلول منتصف القرن الحالي، مدفوعة بالنمو السكاني السريع وارتفاع معدلات التحول إلى الكاثوليكية في دول مثل نيجيريا، الكونغو الديمقراطية، أوغندا، وكينيا.
على سبيل المثال، تضم نيجيريا حوالي 35 مليون كاثوليكي، مما يجعلها واحدة من أكبر الكنائس الوطنية في العالم، والثانية في إفريقيا بعد جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تضم حوالي 55 مليون كاثوليكي. كما تشهد دول مثل أوغندا (16 مليون كاثوليكي) وكينيا (12 مليون كاثوليكي) نموًا مماثلاً، مدعومًا بالمشاركة النشطة في الحياة الدينية. هذا التحول الديموغرافي يعكس تغيرات عميقة في مركز ثقل الكنيسة، حيث أصبحت إفريقيا القارة الأكثر توسعًا من حيث عدد الكاثوليك، بمعدل زيادة سنوية يبلغ 3.31%.
في المقابل، تواجه الكنيسة في أوروبا تحديات العلمنة، وتراجع الحضور في الكنائس، وانخفاض عدد المنضمين إلى الرهبنة. ففي دول مثل فرنسا وألمانيا، تتناقص أعداد الكهنة، بينما تشهد إفريقيا ازدهارًا في الدعوات الكهنوتية، حيث تضم نيجيريا وحدها آلاف الشباب الذين يلتحقون بالإكليريكيات سنويًا. هذه الأرقام تثير تساؤلات حول مدى استمرارية هيمنة الكرادلة الأوروبيين على المجمع المغلق، الذي يضم حاليًا 140 كاردينالاً مؤهلاً للتصويت، 40% منهم من خارج أوروبا.
رهانات سياسية ودينية: البابا الإفريقي كرمز للتغيير
اختيار بابا إفريقي لن يكون مجرد قرار ديني، بل سيكون له أبعاد سياسية ودبلوماسية بعيدة المدى. ففي ظل التنافس الدولي المتزايد على النفوذ في إفريقيا، بين قوى مثل الصين، الولايات المتحدة، وروسيا، يمكن أن يعزز اختيار بابا إفريقي من مكانة الفاتيكان كقوة دينية وأخلاقية مستقلة. إفريقيا، بمواردها الطبيعية وأهميتها الجيوسياسية المتزايدة، أصبحت ساحة للصراع الدولي، واختيار بابا من القارة قد يمنح الكنيسة دورًا أكبر في الوساطة الدبلوماسية، خاصة في قضايا مثل السلام والتنمية المستدامة.
كما أن هذا الاختيار قد يساعد الكنيسة على تجاوز إرثها الاستعماري، الذي لا يزال يثير حساسيات في القارة، حيث ارتبطت في أذهان البعض بالمبشرين الأوروبيين الذين رافقوا الاستعمار، مما يجعل من البابا الإفريقي رمزًا للمصالحة التاريخية.
على المستوى الداخلي، يمكن أن يمثل البابا الإفريقي جسراً بين التيارات المحافظة والإصلاحية داخل الكنيسة. فالكنيسة الإفريقية معروفة بمواقفها المحافظة في قضايا مثل الأخلاقيات الجنسية والأسرة، مما قد يطمئن المحافظين في الفاتيكان. في الوقت نفسه، تتميز الكنيسة الإفريقية بحساسيتها تجاه قضايا العدالة الاجتماعية، مثل الفقر والتغير المناخي، وهي مواضيع تجد صدى لدى الإصلاحيين الذين يدعمون رؤية البابا فرانسيس.
لكن هذا الاختيار لن يكون خاليًا من التحديات. فالهيكل الإداري للفاتيكان لا يزال يسيطر عليه الأوروبيون، الذين يشغلون معظم المناصب العليا في الكوريا الرومانية، الهيئة الإدارية المركزية للكنيسة. هذه الهيمنة قد تعيق إصلاحات جذرية تهدف إلى إعادة توزيع السلطة داخل الكنيسة. بالإضافة إلى ذلك، قد تواجه فكرة "أفْرَقة" الكنيسة تحفظات ثقافية من بعض الكرادلة، الذين يرون في التقاليد الأوروبية جوهر هوية الكنيسة. علاوة على ذلك، فإن الانقسامات داخل المجمع المغلق بين المحافظين، الذين يدعون إلى التمسك بالعقيدة التقليدية، والإصلاحيين، الذين يسعون إلى مزيد من الانفتاح على العالم الحديث، قد تطغى على النقاش حول هوية البابا القادم.
مرشحون محتملون من إفريقيا
على الرغم من أن المجمع المغلق يحيط قراراته بالسرية، فإن هناك أسماء بارزة من إفريقيا تتردد كمرشحين محتملين. من بينهم الكاردينال بيتر توركسون من غانا، الذي يترأس دائرة التنمية البشرية الشاملة في الفاتيكان، ويُعرف بمواقفه الجريئة في قضايا العدالة الاجتماعية، مثل مكافحة الفقر ودعم المهاجرين. كما يبرز الكاردينال روبرت سارا من غينيا، وهو شخصية محافظة تتمتع بتأثير كبير بين الكرادلة التقليديين، خاصة بفضل كتاباته حول أهمية العودة إلى الجذور الروحية للكنيسة. هؤلاء المرشحون يجسدون التنوع الفكري والثقافي داخل الكنيسة الإفريقية، لكنهم يواجهون تحديات مشتركة، مثل الحاجة إلى بناء توافق بين الكرادلة من مختلف القارات، والتغلب على الصور النمطية التي قد تربط قيادتهم بقضايا إقليمية فقط.
هل يكون 2025 عام المفاجأة؟
رغم أن احتمال اختيار بابا إفريقي يبقى غير مؤكد، فإن تاريخ الكنيسة يظهر أن المجمع المغلق قادر على اتخاذ قرارات غير متوقعة ذات دلالات سياسية وروحية عميقة. فعلى سبيل المثال، عندما تم انتخاب البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1978، كان أول بابا بولندي وغير إيطالي منذ قرون، وكان اختياره بمثابة موقف استراتيجي للكنيسة في سياق الحرب الباردة ضد الكتلة السوفييتية، حيث ساهم بشكل كبير في تعزيز المقاومة الروحية والسياسية ضد الشيوعية في أوروبا الشرقية، لا سيما في بولندا من خلال دعمه لحركة ”التضامن”. وبالمثل، عندما تم انتخاب البابا فرانسيس في عام 2013، كان أول بابا من أمريكا اللاتينية، ويمثل اختياره نقطة تحول في تاريخ الكنيسة بفضل تركيزه على قضايا العدالة الاجتماعية والحوار مع العالم الحديث. إذا تحقق اختيار بابا إفريقي في 2025، فسيكون بمثابة إعلان واضح عن التزام الكنيسة بتنوعها العالمي، وربما يفتح الباب أمام إصلاحات هيكلية داخل الفاتيكان تهدف إلى تمثيل أفضل للكنائس الناشئة في الجنوب العالمي.
لكن هذا الاختيار لن يكون نهاية التحديات. فالبابا الإفريقي سيواجه توقعات هائلة من الكاثوليك في القارة، الذين يرون فيه رمزًا للأمل والتغيير. ففي إفريقيا، حيث يعاني الملايين من الفقر والنزاعات، سيتعين على البابا الجديد أن يعالج هذه القضايا بطريقة تجمع بين الروحانية والعمل الملموس. كما سيتعين عليه التعامل مع القوى التقليدية داخل الفاتيكان، التي قد تقاوم أي تغييرات جذرية تهدد هيمنتها. بالإضافة إلى ذلك، سيكون عليه مواجهة قضايا عالمية معقدة، مثل التغير المناخي، الهجرة، والحوار بين الأديان، في سياق يتطلب توازنًا دقيقًا بين الانفتاح على العالم الحديث والحفاظ على التقاليد العقائدية.
لحظة حاسمة للكنيسة
بينما يترقب العالم نتائج المجمع المغلق، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستتجاوز الكنيسة الكاثوليكية تقاليدها القديمة لتتبنى قيادة تعكس تنوعها العالمي، أم أن التغيير سيحتاج إلى وقت أطول؟ الإجابة لن تحدد فقط هوية البابا القادم، بل ستشكل أيضًا مسار الكنيسة في القرن الحادي والعشرين. إن اختيار بابا إفريقي قد يكون خطوة تاريخية، لكنه سيحتاج إلى شجاعة وإرادة جماعية من الكرادلة لتحقيق هذا الحلم، ولإثبات أن الكنيسة قادرة على أن تكون فعلاً كاثوليكية بمعناها الحقيقي: عالمية وشاملة. في عالم يتغير بسرعة، قد يكون هذا الاختيار فرصة للكنيسة لإعادة تعريف دورها، ليس فقط كحارسة للإيمان المسيحي، بل كصوت أخلاقي يعبر عن تطلعات ملايين الكاثوليك في القارة الإفريقية وخارجها.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115