الذي تجسدت معالمه بوضوح مع صعود دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة. لكنّ هذه الظاهرة لم تظل حبيسة المجال الأمريكي، بل سرعان ما امتدت لتشمل قارات العالم كافة، وأنظمة سياسية على اختلاف توجهاتها. إنها ثورة لا ترفع شعارات العدالة أو الكرامة، بل تُعيد تدوير أسوأ ما في الذاكرة السياسية للبشرية: الاستعمار، العنصرية، الأكاذيب، القومية المتطرفة، والخوف المرضي من الآخر.
الحقائق البديلة في زمن ما بعد الحقيقة
في هذا السياق المتحوّل، أصبحت الأكاذيب الفجّة تُسوّق تحت مسمى “الحقائق البديلة”، في ما يمكن تسميته بعصر “ما بعد الحقيقة”. عصر لا مكان فيه للمنطق أو البرهان، بل تتسيّد فيه مشاعر الخوف والانفعال والكراهية، بوصفها أدوات ناجعة لتعبئة الجماهير وتوجيه الرأي العام.
من البرازيل إلى المجر: شعبوية بلا حدود
من البرازيل إلى المجر، ومن الهند إلى فرنسا، تتكرر الظاهرة ذاتها: زعماء يصعدون إلى الحكم عبر خطابات تقسيمية، تعتمد على تهميش الأقليات، شيطنة المعارضين، وتمجيد الأمة المزعومة. في البرازيل، لم يتردد الرئيس السابق في تبني خطاب عنصري ومعادٍ للبيئة. وفي المجر، يتصدر المشهد رئيس وزراء يهاجم المهاجرين، ويعيد إحياء خطاب قومي مغلق. أمّا في الخطاب السياسي الغربي المتصل بإسرائيل، فغالبًا ما يُصوَّر الفلسطينيون كعقبة أمام “السلام”، ويُجرَّمون دفاعًا عن أنفسهم، في حين تُبرّر ممارسات الاحتلال بوصفها “حقًا مشروعًا في الدفاع”.
الشعبوية في العالم العربي: الزعامة بين الخلاص والقمع
لم تعد أوروبا وحدها ساحةً لهذا المد الشعبوي، بل دخلت الأنظمة العربية على الخط، وإن بصيغ خاصة. في عدد من البلدان العربية، تحوّل الخطاب الشعبوي إلى أداة سلطوية لتكريس الزعامة، وتأبيد السلطة، وقمع الحريات. يُقدَّم الحاكم بوصفه المنقذ من “المؤامرات الخارجية”، والمتحدث الأوحد باسم الشعب، حتى وهو يصادر إرادته عمليًا. تُستخدم عبارات مشبعة بالعاطفة الدينية والوطنية لتبرير خنق المعارضة، وإسكات الأصوات المستقلة، وشيطنة كل رأي مختلف.
شعبوية سلطوية… الجوهر واحد
ورغم اختلاف الشكل بين الشعبوية السلطوية العربية ونظيرتها الغربية، إلا أن الجوهر واحد: تقويض الحياة السياسية، تشويه الخطاب العقلاني، تعبئة الغرائز، وتغليب العاطفة على العقل. إنها شعبوية تُمارَس من أعلى، تهدف إلى تدجين المجتمعات، وتمويه الاستبداد بلغة الوطنية والخلاص.
شعبوية تتغذّى من فشل النيوليبرالية
لا يمكن فهم هذا المدّ العالمي دون العودة إلى جذوره الاقتصادية والاجتماعية. فقد أدّت سياسات الخصخصة، وتقليص الإنفاق العمومي، وغياب العدالة الضريبية، إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية، وولّدت أزمات هوية واغتراب دفعت فئات واسعة من الشعوب إلى الارتماء في أحضان وعود شعبوية خادعة. ومع فشل العولمة النيوليبرالية في تحقيق التنمية والعدالة، وغياب بدائل تقدمية جذرية، تحوّلت الشعبوية إلى “خلاص وهمي” يفتقر لأي مشروع حقيقي.
المثقف العربي أمام مفترق طرق
في ظل هذا المشهد المقلق، تتعاظم مسؤولية المثقف العربي. فالصمت لم يعد خيارًا، والمراقبة من بعيد لم تعد كافية. إن المعركة اليوم لم تعد تدور فقط حول من يحكم، بل حول كيف نفكّر، وما إذا كان بمقدورنا أن نتصوّر مستقبلًا مغايرًا.
نحن بحاجة إلى جبهة ثقافية عربية عابرة للحدود، تستعيد دورها التاريخي في تفكيك الخطابات الزائفة، ومناهضة التجهيل، والدفاع عن الإنسان ككائن حرّ، لا كأداة في ماكينة الاستبداد أو رقْم في معادلات الهيمنة.
نحن بحاجة إلى خطاب جديد: واضح، جريء، مقاوم. خطاب يكشف الشعبوية، يفضح العنصرية، ويعيد الاعتبار للنضالات الحقيقية من أجل الكرامة والحرية والعدالة.