في ديمقراطية الحد الأدنى

د. شاكر الحوكي مدير قسم العلوم السياسية بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس

على الرّغم من أنّ "الاختلاف" بين جمهور الفقهاء مثّل قديما ظاهرة عامّة ومتفشّية قادتهم حتّى إلى الاختلاف حول "الإجماع" نفسه،

وذلك ليس فقط من جهة "الأطراف" الذين ينعقد بهم هذا "الإجماع" (وهل هم عموم الأمّة ؟ أو جماعة الصحابة ؟ أو أصحاب المذاهب الأربعة ؟ أو أهل الحل والعقد ؟)، بل أيضا من جهة النطاق الزمني الّذي يجري فيه (وهل هو مقيّد بعصر الصحابة والتابعين فقط ؟ أو شامل لأيّ عصر من عصور الإسلام ؟) وكذلك من جهة الموضوعات التي يقع فيها (وهل يكون ذلك في العبادات ؟ أو في المعاملات ؟ أو في الاعتقادات ؟ ألخ…).. على الرّغم من ذلك، فقد وُجدتْ بينهم على الدّوام قواسم مشتركة مهما بلغ "الاختلاف" بينهم مبلغه. فهم مثلا قد يختلفون من جهة دليل حكم "الإمامة" وهل إنّ وجوبها يكون بالنص أو بالعقل، ولكنّهم "مجمعون" بالتأكيد على ضرورتها. كما أنهم قد يختلفون في حكم طاعة الإمام المتغلّب وهل هي واجبة أو لا، ولكنهم "مجمعون" بالتأكيد على ضرورة طاعته متى كان عادلا .
أما في عصرنا الحديث، وفي سياقنا التونسيّ تحديدا، فقد اتّسعت الشُّقّة بين النخب في أمّهات المسائل وهوامشها اتّساعا رهيبا أتى على الأخضر منها واليابس وبدأ يبشّر بنُذُر "الصراع" و"الشّقاق" و"الاحتراب".
وليس أدلّ على ذلك في الواقع من "اختلافهم" اليوم حول "مفهوم الديمقراطية" وما أساله بينهم من لغط كثير وهرج كبير: ففي حين اختزله المتحمّسون منهم "للديمقراطيّة الليبرالية" في بعده التّحرّريّ الصّرف، بقي المتحمّسون "للديمقراطية الاجتماعية" يلحّون على الجانب الاجتماعيّ منه. وفي حين تمسّك أنصار "الديمقراطيّة الإجرائية" بالنظر إلى موضوعة الديمقراطية باعتبارها مجرّد "آليات انتخابية" و"هيئات تمثيليّة"، شدّد "مخالفوهم" على أنّ مثل هذه النظرة قد تفضي إلى إرساء "ديمقراطية شكلية" لا تساعد على التّمييز بين "الديمقراطية الحقيقية " و"الديمقراطية المزيّفة ".
طبعا المطلع على تاريخ الأفكار السياسية سينتبه إلى أن هذه "الاختلافات" ليست على الحقيقة من بنات أفكار النخب التونسية، وأنها مجرّد رجع صدى لـ"خلافات سابقة" دارت رحاها في الغرب بين مدارس مختلفة كـ"الماركسية" و"الليبرالية" و"الاشتراكية" وغيرها، في محاولة لإعادة إنتاج "مقولات ماركسية" بدأت بلورتُها مع "ماركس" نفسه غداة وصفه للديمقراطية الغربية في عصره بكونها "كاذبة" و"شكلية" ما دام يجري تسخيرها لخدمة "المصالح البرجوازية" وليس لتحقيق "المساواة الاقتصادية".
ويبدو أن من يحتكمون إلى المرجعيّة الماركسية من النّخب التونسية قد فاتهم أن يقدّروا المنجز الهائل الذي تحقق لفائدة العمال على صعيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بفضل "الديمقراطية الليبرالية"، كما فاتهم أن يرصدوا حجم التطورات الهائلة التي لحقت بـ"الليبرالية" بعد الحرب العالمية الثانية، على إثر تخطّيها للأفق الذي رسمه لها المؤسسون الأوائل من أمثال "جون لوك" و"كانط" و"ستيورات ميل" و"آدام سميث"، لتُتابع تطوّرها على أيدي عدد من الفلاسفة الأفذاذ لعلّ من أبرزهم "جون رولز" الذي يعود إليه الفضل في الجمع بين مفهومي "الحرية" و"المساواة" في إطار ما بات يعرف بـ"الليبرالية الاجتماعية".
يبقى أن المقلق حقّا بالنسبة إلى المتابع للشأن التونسيّ هو هذا التيّار السياسيّ المتنامي باستمرار يوما بعد يوم، والّذي لم يعد يكتفي بمجرّد توجيه النقد إلى الديمقراطية لهذا السبب أو ذاك، بل أصبح يجنح إلى رفضها جملة وتفصيلا؛ وذلك إمّا بتعلّة كونها "كفرا بواحا" على مذهب "السلفيين"، وإمّا بتعلّة أنها أصبحت "سلاحا ناعما" - على مذهب "القوميين العرب" و"بعض التيارات اليسارية" - وأنّ الغرب يعمل على توجيهها لإسقاط "الأنظمة الوطنية" وبسط هيمنته على "ثروات الشعوب" (كما حصل في العراق). على أنّ ما يثير الاستغراب والتعجّب معا أن تجد في هذا الفريق من وصل به الأمر إلى حدّ اختزال "الديمقراطية" في مجرّد كونها أداة "الأمريكان" لـ"تمكين الإسلاميين من الوصول إلى السلطة" ومن ثَمّ إلى "تخريب أوطانها" !
على أنّ "الاختلاف" بين النّخب التونسية لم يقف عند "مفهوم الديمقراطية" كما وصفناه، بل وصل تأثيره إلى ما يترتّب على الديمقراطية المنشودة من "حقوق" و"حريّات"؛ فإذا كانت "الأحزاب الإسلاميّة" تلحّ على مطلب "الحريّات السياسية" بالأساس، فإنّ ما كان يهمّ "الأحزاب العلمانيّة" أوّلا هو التّأكيد على "الحريات الفردية". بينما كان إلحاح "الأحزاب اليسارية والقومية" على "الحريّات الاقتصادية والاجتماعية".
وحيث إنّ حدة الصراع السائد في تونس بين هؤلاء الفرقاء قد وصلت إلى أقصى مدى يمكن أن تصل إليه، فقد كان من الطبيعيّ أن ينحرف "المطلب الحقوقيّ" عندهم عن "جوهره الديمقراطي الصميم" الذي يَفترض تكاملا وتعايشا بين جملة هذه "الحقوق" و"الحريّات". فإذا أنت في المشهد التونسيّ أمام "حالة غريبة" تستعصي أحيانا على "الاستيعاب"؛ وإذا بمن كان يُفترض فيه أن يجعل "الدفاع عن الحريات الفردية" من أوكد أولويّاته (كـ"التيارات النسوية" مثلا)، لا يرى أيّ حرج في التحفظ على "الحريات السياسية"، لا لشيء إلا لأنها قد تعزز من مكانة "الإسلاميين" السياسيّة. وإذا بمن كان يُفترض فيه العضّ بالنواجذ على "الحريات السياسية" (كـ"الإسلاميين" مثلا)، يتحفظ بشدّة على الاعتراف بـ"بعض الحريات الفردية": كـ"المِثْلية" و"الموت الرحيم"، وإذا بمن كان يُفترض فيه أن يكون أحرص الناس على "الحريات الاقتصادية والاجتماعية" (كـ"الاتحادات النقابية" مثلا)، يلحّ إلحاحا على إنكار حق "الإسلاميين" في "الحريات السياسية" وفي "الحكم" ولو حتى بمجرّد "المشاركة فيه". وهذا كلّه عدا عن الخلاف التقليدي حول معضلة "كونية حقوق الإنسان" وعمّا إذا كانت "كلّا لا يتجزأ" (كما يقول "العلمانيون" و"الحداثيون") أو تقتضي احترام "خصوصية الشعوب" و"معتقداتهم الدينية" (كما يلحّ على ذلك "الإسلاميون").
إنّ هذه "المسائل الخلافية" المذكورة (وغيرها كثير)، إذ تجعل من انعقاد الإجماع حولها بين النخب التونسية أمرا مستعصيا، لتقودنا حتما إلى التساؤل عن "الجدوى" من عقد هذا "الإجماع" ديمقراطيّا، وعمّا إذا كان يمثّل بالفعل "مطلبا لا بدّ منه" في "الديمقراطيات الناشئة" على وجه الخصوص. وهو سؤال ربّما وجدنا الجواب عنه في تجارب الدول الغربية، خاصّة وأنّها عاشت الإشكال نفسه لمّا شاع "الاختلاف" فيها بين النّخب حول "المعنى المراد تحديدا بالإجماع" وحول "طبيعة المبادئ التي تستوجب هذا الإجماع".
وعلى الرغم من ظهور عدة دراسات بعد الحرب العالمية الثانية تشدّد على أهمية "الإجماع" حول جملة من "القيم الثقافية الأساسية" (من قبيل "الحرية" و"المساواة")، باعتبارها شرطا ضروريا لبناء الأنظمة الديمقراطية، فالثابت أن النظام الديمقراطي في الغرب - كما لاحظ ذلك عزمي بشارة - لم يتطور على قاعدة تحقيق "الإجماع المطلق": لا في ما يتّصل بـ"أطراف هذا الإجماع" (أي النخب) ولا في ما يتّصل بـ"موضوعاته" (أي مضمون القيم)، بل جرى "الإجماع" على احترام "الحدّ الأدنى" من المبادئ العامة للديمقراطية، وعلى "الإجراءات" التي تنظم العلاقة بين السلطات وتضمن تحقيق انتخابات نزيهة وشفافة بما يضمن التداول السلمي على السلطة وتجديد الشرعيات الشعبية، على أن يقع حسم الصراع حول القيم والمضامين السياسية المختلف حولها في إطار التنافس السياسي والحزبي الذي يقع تأمينه بشكل دوريّ عبر الاحتكام إلى الشعب. وهذا هو مقتضى "الإجماع التوافقيّ" كما ضبط معناه "جون رولز"، حيث يتمّ فيه تمكين المتنافسين السياسيين من الدّفاع عن تصوراتهم الفكرية والأيديولوجية، في ظل مجتمع لا فقط "ديمقراطي" و"دستوري" و"مستقرّ"، بل "عادل" و"دائم" أيضا، وذلك على قاعدة "احترام مبدإ التسامح المتبادل" .
غير أنّ المعضلة في مثل هذه "الديمقراطية الإجرائية" أنّه لم يتحقّق لها في التجربة التونسية ما تحقّق لها في التجارب الغربية، فلم تنجح لذلك في أن تصبح "حلاّ وسطا" يخرج البلاد من "صراع الأضداد" ويساعد النظام الديمقراطي على الاشتغال تلقائيا، بل صارت هي في حدّ ذاتها مصدر رفض وإنكار من قبل "شرائح نخبوية وحزبية واسعة". وهو ما يؤذن بإطالة عمر الانقلاب وتأخر عودة تونس إلى مسارها الانتقالي.
يبقى أن نشير في الأخير إلى أنّ ما ذكرناه عن معضلة هذا "الخلاف الإشكاليّ" الذي يحول دون انعقاد "الإجماع" حول الديمقراطية في تونس، ليس في الواقع إلاّ غيضا من فيضِ "خلاف أكبر" يمتدّ إلى مجالات شتّى، منها ما يتّصل بالاقتصاد (وهل الأنسب فيه أن يكون "اقتصاد سوق" أو "اقتصادا موجّها؟) ومنها ما يتّصل بالهوية (وهل هي "عربية" أو "إسلامية" أو "أمازيغية" أو "قرطاجنية"؟)، بل منها ما يتّصل حتّى بالوطن (وهل هو لكل أفراده وفئاته أو هو حكر على فئة معينة وشرائح محددة؟). وذلك ما أدّى في الحقيقة إلى استحكام العقدة في المأزق السياسيّ الّذي تعيشه تونس اليوم. وهو مأزق لا يمكن تجاوزه إلا بتحقيق شرطين: قبولٍ مبدئيٍّ وحاسمٍ من الجميع بـ"العيش المشترك"، وإجماعٍ ينعقد بين الفاعلين السياسيين على العمل بـ"الديمقراطية الإجرائية" بما هي "الحدّ الأدنى" لضمان ديمومة النظام الديمقراطي.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115