"عشاء لثمانية أشخاص" لسمر المزغنّي أو كيف نروي بطولة ضدية لإنسان بلا خصال؟

قرأت بمنتهى الشغف رواية سمر سمير المزغنّي الأخيرة الصادرة خلال السنة الفارطة عن منشورات المتوسط بميلانو الإيطالية

"عشاء لثمانية أشخاص" في أكثر من 200 صفحة. وهو أثر صدرت طبعته الخاصة بتونس عن دار الكتاب، في غضون نفس السنة.ولعل ما يشدّ الانتباه منذ أول وهلة،هو هندسة المؤلفة لمحتوى عرضها الروائي الـمُغري،الدائرة حول دعوة لحضور عشاء تضمنت لائحة أطعمته، أطباق متنوعة، من المقبّلات إلى التحليّة، مرورا بالسلطة والطبق الرئيس.وهي هندسة طريفة في ضربها مهّدت المؤلفة من خلالها لما حصل قبل تناولها بتقديم أبطال روايتها من بين أصحاب الدعوة والمدعوين، معوِّلة في ذلك على تقنيات الكتابة البصرية التي حولتهامسلسلات المواسم أو الأشرطة السينمائية إلى تقليد تقني راسخ وعابر للأجناس الأدبية والابداعية.

قسّمت الكاتبة وقائع "مرويتها"إلى جزئين، خُصّص أولاهما للتوسّع في وقائع زمن ما قبل العشاء: "24 ساعة قبل العشاء"، وتضمن ذلك فصلين اثنين،حمل الأول عنوان: "فرخ لا ينام"، بينما تم ربط ثاني فصول هذا الجزء، بعنوان أغنية كوكب الشرق أم كلثوم، "فات الميعاد".
يرسمهذا القسم من الرواية انخراط بطلها "رامي"، الابن الضال لدكتور طبّ التجميل، في نوبة من الأرق الشديد دفعته إلى استحضار ذكريات مساره العاثر، وصدماته الموجعة، تلك التي نجمت عن شعور حادّ بتأنيب الضمير، بعد أن قصف حادث مرور أليم حياة والدته وأخيه الأكبر، ذاك الذي كرّس في تصوّر والديه نموذجا للشاب المثابرمستقيم السلوك،الشيء الذي حوّله إلى مصدر لفخرهما، ووعدا باتصال وجاهتهما، وضمانة لتواصل نسغ العائلة بعد رحيلهما.
وعلى النقيض من ذلكبدا مسار ابنيهما الأصغر الذي لم ينل من المعارف والتأهيل والمتابعة ما حضي به أول الأبناء، متعثّرا على جميع الصُعد والجبهات، بحيث أُقفلت في وجهه دائرة الترقي بالتعويل على كفاءاته الشخصية، فانسلخ إلى مصدر للتضييق على والده، الذي أضناه تحمل تبعات تصرفاته المارقة والمزاجية، والحال أنه قد نفض منه يديه ولميكن ينتظر من ذَكَرِ البطّ الأعرج غيرالنجاح في إنجاب حفيد من زوجته "مها"، يُجلي كدر أيام دكتور جراحة التجميل العكرة،وفقدانهلأغلى الأحبّة.
بيد أن وريث العائلة المتنطّع قد أصرّ على مزيد تمريغ صورة والدهفي التراب والازراء بوجاهته المكتسبة،لمّا أمّعن في طلب وجاهة مال وأعمال،مصدرها شبكة علاقات مريبةفاسدة،ضمّت رهطا من المتحيّلين المحسوبين على مدبّري الشأن العام من خسيس الساسة، ومن المتاجرين بالدين،وكذا من صناع التفاهة من بين المشتغلين بالإعلام، والمستفيدين من عالم الترفيه الرخيص المحسوبين علىمواقع التأثير ورخيص فنون الفرجة.
يستعيد رامي، الذي لم يكحّل النوم جفنيه،وهو مضطجع بالقرب من زوجته مها، أدق تفاصيل تحضيرات دعوة العشاء التي وجّهها لمختلف تلك الشخصيات المريبة، حتى تستمتع ظاهريا بلائحة طعام عشاءه الملكي، وتشهدأساسا انطلاق تشييد مشروعه التجاري الفارق.فقد ذهب في مطلق اعتقاده أن مثل ذلك المشروع سينقله دفعة إلى موقعأكبر رجل أعمال في البلاد، ويكسبه أسبقية وجاهة لا تمارى مقارنة بوالده،ذاك الذي ملأت شهاداته العلمية وذكريات نجاحاته الباهرة،كما صور ما زاره من بلدان جدران مكتبه الخاص وكذا قاعة استقبال بيت العائلة الفخم.
ولا ينبغي أن يدفع بنا استحضر تفاصيل السبق الذي حققته عائلة الفرخي، من خلال استذكار بطل الرواية "رامي" للمحطات الفارقة في مسار دكتور جراحة التجميل، ومسيرة عمه أستاذ الحقوق والمحامي المشهور الاستثنائيين، إلى الاعتقاد بأن ما جنته العائلة قد حماها من الوقوع في مطبات مسار الارتقاء الاجتماعي الـمُضنية وتعثراته. فقد خلّفجهد سنوات الجمر ندوبا غير قابلة للتدارك،على غرارمعاقرة الدكتور للخمرة، وتبديد ابنه النزق وزوجته البلهاء لمكاسبه،وتشويشهما على وتيرة حياته وتصريف سير بيته الفخم، وعمل مرافقيه ومساعديه وخدمه وعسسه وطهاته ومعاوينه. ما أورث دكتور جراحة التجميل، شعورا حادا بالذنب إزاء وريثه الذي لم يول ما يكفي من الاهتمام لتربيته على أفضل وجه، بعد أن نكبه الدهر في زوجته وفي ابنه الأكبر، وفوّت على نفسه بشكل تراجيدي، زمن التمتع بنجاحه وارتقائه في سلم الوجهة الاجتماعية.

هندسة الانحطاط
تستحضر المؤلفة ضمن فصول لائحة الطعام المعدّة لعشاء مدعوي عائلة الفرخي الأربعة، تفاصيل تتصل بنوعين من المقبّلات الباردة والساخنة، مع سلطة مشكّلة على صورة قوس قزح، وطبق رئيس وكعكة مرطبات رفيعة للتحلية. على أن استجلاب تلك التفاصيل الدالة على انخراط أصحاب الضيافة ضمننادي ناجحي أرقى نخب البلاد وأثراها مالا ووجاهة وثقافة وذوقا، هوما شكّل على نقيض ما كان منتظرا، فرصة لفضح المستور، بحيث تحوّل زمن تقديم المقبلات الباردة إلى "جثة لفتح الشهيّة"، واقتراح نظيرتها من المقبّلات الساخنة إلى "حساء لتبوّل أحد مساعدي رئيس الطهاة"، وانفتاح موعد تقديم سلطة قوس قزح إلى عودة جثة دكتور التجميل الثملة إلى الحياة، وتزامن موعد تقديم الطبق الرئيس لأجود خصيان الثيران الامريكية، إلى صوت لدوي المتفجرات الملقاة على قصور أثرياء الأحياء الغنيّة من قبل المحتجّين ضد انحباس الأمطار وموجة الغلاء الخطيرة التي اجتاحت البلاد، من بين سكان الاحياء الفقيرة.
لذلك يحسن بنا،إزاء ما استجلبت المؤلفة لتقديم معروض لائحة عشاءها،عدم الاغضاءعنحضور صدى يربط منجزه االأدبي بالعديدمن الأعمال الفنية والعروض الأدبية المتماهية كليا أو جزئيا مع هندسة روايتها، حتى وإن تباينت الأهداف وتباعدت المقاصد.فقدعرضت علينا مائدة أفلاطون Le Banquet de Platonمثلا،نقاشا محفّزا ورفيع المضامين الفلسفية والأدبية والفنية بخصوص ردّ إحساسنا بالحبإلى معافى التفسيرات.كماقدّم لنا كتاب "ساتيركونSatiricon" المنسوب إلى مستشارالامبراطور الروماني "نيرونNiron""بيترونPétrone" (عاش خلال القرن الثاني الميلادي)، الذي اقتبس من مرويته المخرج الإيطالي فدريكوفيليني Federico Felliniفي حدود سنة 1968 شريطه السينمائي "ستيركونفليني Satiricon Fellini"، عروضا تحيل بعض فصولها على مشاهد مأدبة متهتكة، ترسم أفول مجد الإمبراطورية الرومانية.
وهوذات مالجأإليه أيضا المخرج الإنجليزي "ستانلي كوبريك Stanley Kubrick" سواء بسواء، لما عمدإلى اقتباس رواية Antony Burgess الصادرة سنة 1962 "البرتقالة الميكانيكية Orange mécanique"، حتى يكشفعن تورّط صُناع القرارحال مجابهتهم لتكاثر عصابات الجانحين بعاصمة البريطانيين اللندنية وأحوازها،وإقدام السلط الأمنية ممثلة في وزارة الداخليةعلى إتمام تجارب نفسية مدمّرةلسلامة الذات البشرية،تنسف حق منظوريها في تقرير مصيرهم بأنفسهم.وتلك قراءة سريالية في توصيف أساليب السلط الرسمية المشبوهة قصد معالجة توسع رقعة الفوضى واتساع الفوارق الاجتماعية بين من يملكون كل شيء ومن لا يتحوّطون على أي شيء. كما نصطدم بنفس السياقات ضمن أشهر رواية ألمانية للقرن العشرين ونقصد طبعا مروية الكاتب النمساوي الأصول "روبيرت موزيل" "الرجل الذي لا خصال له" Robert Musil, L’homme sans Qualitésالتي تعرض ضمنها إلى تكليف بطلها الضدي "أولريش" بترتيب احتفالات قيصر النمسا وملك المجر بـ "يوبيل" اعتلائه سدة الإمبراطورية. وسيطرة السجالات الجوفاء على المأدبة التي أقيمت للغرض،وجمعت بين نخب الفكر والمال والسياسة بغرض الاعداد لتلك الاحتفالات.
وظف أفلاطون قصد تعميق التفكير حول مدلول الحب، حكاية اجتماع فلاسفة اليونان، لحضور مأدبة،قرّروا الاعراض أثنائها عن الانهماك في العربدة، منشغلين باقتراح تعريفهم لما تعنيه تجربة الحب؟ هل تحيل على الظفر برفيق يزيّنحضورهـ(ـا) رحلة الوجود، ويشجّع على تخطي المخاوف من الوقوع في دنيء التصرّفات؟ أم أن أشكال التعبير عن ذلك يحتاج أمرها إلى البحث عمّا يتوجّب الاعلاء من شأنه وتقريضه؟ فكل تصرّف لا يمكن اعتبارهسويا أو قبيحا في حدّ ذاته،لأن طريقة أدائه هي ما يردهإلى مجال الرصانة والحكمة،أويعيده إلى نقيضهما. فالإسراف في العربدة مثلا، تصرّف يعكس خللا في السلوك، والحال أن معرفتنا بالأنبذة وإقبالنا على شربها بتحفّظ وأناةيعكس على النقيض من ذلك، رفعة أذواقنا وقدرتنا على التحكّم في غرائزنا.
ويصدق نفس الحكم حال إعطاء ثقتنا إلى شرفاء الأشخاص، ومجافاتنا لمن زين لهم سوء مزاجهم تحيّن الفرص للإزراء بغيرهم. وفي جميع الحالات تبدو مشاعر الحب الغريزية، أقل رفعة من تلك الناجمة عن رجوح التفكير ورصانته، فالتعويل على مفاتن الأجساد ذاهب بالضرورة بمجرد زوالها، بينمايدفع عشق الأرواح إلى تحقيق السكينة والارتقاء بالذات.لكن من أين تنبع حاجتنا إلى الارتباط بمن لا يشبهوننا تصرّفا وسلوكا؟ ليس بعيدا أن الخليقة قد كانت في البدء أجساما مكوّرة مُتدحرجةالحركة،تختلط ضمنها الذكورة بالأنوثة.وأندخول تلك الاجسام -وفق أسطورة أرسطوفان-في منافسة على الربوبية مع كبير آلهة اليونان"زوس"، قدأدىإلى معاقبتها على ما أبدته من جسارة،وتشطيرها نصفين،بقي كلاهما يحنّ إلى الانصهار والعودة إلى ما كان عليه سابقا.
لم يَحِدْ"بيترون" على هذا التوجه،فقد صوّر لنا،وفي سياق مأدبته، مغامرات أربعة شبان اتسمت تصرفاتهم بمغالاة في المجون والاباحية، وإفراط في ممارسة التهتك، بحيث عكس لنا القسم المخصص لـ "عشاء تريمالكيون" أو مأدبته le Festin de Trimalchion وضمن شريط فيليني، حدّة الـملاسنة، وحرارة المشادات، وما ترتب عنهما من وضعيات محرجة، سقطت بالمدعوين إلى حضيض الممارسات المتعجرفة، الغليظة الحسّ،الفاقدة لأدنى مراتبالذوق. وهو ما شكل وضمن قراءة فيليني السينمائية مؤشرابليغا على أن وصول الثمرة إلى موعد نضجها لا يعني بالمرة أن مادة فسادها توجدخارجها بالضرورة. تلك في العمق عبرة لتاريخ الحضارات القديمة على غرار ما عينته حاضرة الإمبراطورية الرومانية، وكذا مُحدثها أيضا بعد أن داهمت الإنسانية في غضونأقصر قرونهاامتدادا،ويلات حربين كونيتين.
حملت رواية "البرتقالة الميكانيكية" لأنطوني برغيس،تلك التي حوّلها ستانلي كوبريك إلى واحد من أهم أفلام القرن الماضيA Clockwork Orange،من جانبها قراءة مخصوصةلأعطاب الحداثة الخطيرة، مصوّرةماأتاه بطلها "ألاكس"، صحبة شلة الأشقياء من أصدقائه الموسومين بجماعة "الدروقي" (وهو لفظ يحيل على الاسراففي اللجوء إلى العنف في اللغات اللاتينية، والاحتماء بمظلة الصداقة في لغة الروس) منتصرفات جانحة خطيرة، الشيء الذي أقضّ مضاجع السلط، فأرغمتبطل الرواية على القبول بوصفةعلاجية تجريبية حوّلته بالتدرّج إلى "روبوت"مسلوب الإرادة،غير قادرعلى مواجهة مصيره بنفسه واختيار قدره بكامل الحرية. وفي ذلك تلميح بليغ لمأسوية ما ينتظر بني البشر بعد أن يتم إجبارهم على التخلي على فضائل سلوك الأحرار والانخراطفي زمرة قطعان المستهلكين الـمُنقادينفي صغار وذلّة لأوامر السُلط الأمنية،والواقفين عند ونواهيها.
وهكذا فقد لخص "كوبريك"تراجيديامأساة الأزمنة الحديثة، وانقطاع قدرة الإنسان على ابداء الرأيأوالنضال بهمّة من أجل تحقيق مطالبه ورسم مستقبله، بعيدا عن فكي رحى السلطة وجشع المحسوبين عليهاأوالمستفيدين من عطاياها.
ألا يستقيم والحال على ما بينّاه أن نتساءل بعد جميع ما استحضرناه عن موقع رواية سمر المزغني من جميع ما ذكرنا؟ ولما لم تتوفر تفاصيل روايتها على محاولة لإثمار ما أتينا عليه موافقة وتشابها؟
في تقريض البطولة الضدية
يأخذنا سرد الوقائع وتطوّر الاحداث في رواية سمر المزغني إلى نسج صورة مكتملة لمدلول البطولة الضدية أو anti héros . فقد شغل ابن الدكتور جراح التجميل "رامي" موقع الشخصية المكروهة، التي تصرّ مرضيّا -وفق منطق سلبي أو عدمي- على الاطاحة بمنجز البطل الحقيقي، ونقصد والده جراج التجميل طبعا، وهو ما يزيد في تعقيدالموقف الذي ينتظر أن يتخذه المتابع إزاء تصرفاتها، مما يدفعهأحيانا إلى تفهّم وجهات نظره، بلإلى التماهي عاطفيا مع ما قد يطرأ على سلوكه من أعطاب.
فإذا ما دفعتنا أسباب وجيهة إلى إبداء الشعور بالتعلّق تجاه من توفّرواعلى مفور الخصال المحمودة من أبطال المسلسلات أو الافلام، وخاصة أولئك الذين اتسمت تصرفاتهم بالإقدام والشجاعة وعزة النفس وكرمها، فإنه بوسعنا أيضاأن نبدي كثيرا من الاندهاش إزاء انخراطنافي البحثعن مبررات منطقية لما يأتيه سواهم من تصرفات عكسية، حتى وإن ساهمت تلك الممارسات الجانحة في إثارةحفيظتنا والزيادة في سخطنا.
ذلك بالتحديدما تم تشغيله ضمن رواية"عشاء لثمانية أشخاص"، بحيث دفعتسمر المزغني قرائها،حال وضعتهم وجها لوجه مع تفاصيل مسار بطل روايتها العكسي رامي،إلى الحفر في تقاطيع شخصيته القلقة، وردّ جميع تفاصيل مرويتها الأكثر تشعبا ورهافة إلى ارتفاع منسوب الانزعاج لديه.
فقد عاين أول فصول الرواية تصويرا لمزاج بطل الرواية المتقلب حال استبداد الارق به وانخراطه في نوبات تشنج عصبي، امتزجت ضمنها ذكرات طفولته المغدورة، مع استحضار ما يتوجب عليه وعلى زوجته ومعاونه القيام به أو توفيره من لوازم لدعوة العشاء، فضلاعمّا أصابه من تهويم زيّن له إعجاب المدعوينوتقديرهم لمشروعه التجاري المفارق وقُدراتهالألمعية. وذلك قبل أن نكتشف هول ما حصل للعائلة بعد أن ذهبت والدته وأخاه الأكبر ضحية حادث مرور مروّع، قلب حياة العائلة من خلية ثرية طموحة، إلى حطام مكلوم يديره طبيب جراح نخلهالإدمان ومغالبة شعور فظيع بالفراغ والرتابة،تقاسم سأم أيامه مع وريثهالصعلوك وقرينته التافهة. لذلك بدت فكرة تنظيم ذلك العشاء بمثابةالوعد بالإفلات من مصير عدمي، والقطع مع الطابع العبثي لأيام عائلة الفرخي،بالعودة إلى مسار أدعى إلى السكينة وأقرب إلى العافية.وهو ما لم يتيسرحصوله باعتبار نوبات المغالاة والإسراف التي طبعت سلوك من أقام على تجهيز ذلك الحدث،محوّلامختلف أطواره إلى ملهاة بائسة تدرّجت من خلالها المؤلفة إلى اخطارنا بفشل بطل روايتها العكسي المدوي.
فقد اخذتنا المقبلات الباردة إلى الوقوف على تفاصيل سقوط الدكتور المعربد مغشيا عليه،واعتقادمن حوله بمغادرته للحياة،تزامنا مع موعد الاحتفال الذي تم الأعداد له بجهد وهمّة كبيرين. في حين وقفت المقبلات الساخنة عند تعمّد أحد الطهاة سكب بوله،تشفيا وغيلة،فيما تم اعداده من حساء ملكي فاخر. وتوافق تقديم سلطة قوس قزح مع استفاقة الدكتور بعد أن تعتعه السكر ولجأ أصحاب الدعوة إلى إيثاقه على أريكةعند رأس المائدة. في حين شغل ما كان يحدث من هرج وانفجارات خارج حديقة البيت، لفيف المدعوين، أولئك الذين أنطلت عليهم حيلة المضيّفين بأن أمره لا يزيد عن لعب نار تم اعدادها خصيصا لترفيههم وتسليتهم.بينما ترسم خاتمة الحكاية وصول المحتجين إلى بيت الضيافة والقاء المتفجرات داخله ونفور المدعوين الذين هالهم التهاب مائدة العشاء، ففروا بجلدهم دون الاطلاع على التصميم المصغر لمشروع رامي المحترق، والاحتفال بنجاحه بقطع كعكة التحلية.
لا مراء في أن مثل هذا التسلسل الكارثي الذي لا يخلو في حالات عدة من حضورللهزء المضحك المبكي،بوسعه أن يشُد القابض على نص الرواية، حتى وإن بدا ذلك التسلسل غير معني بتحديد المكان على خريطة المجال المقصود، مغربا ومشرقا وخليجا عربيا أيضا. وهو ما لا تسمح لنا بالتعرّفعليه لائحة العشاءالمكوّنة من أطباق مشكّلة لأطعمة راقية، لا يمكن لغير أفخر المطاعم العالمية تقديمها. كما لا تسمح جولة الاطلاع على معرض اللوحات المبثوثة في حديقة البيت، وردّ رسومها إلى تياراتتشكيّلة مخصوصة،من التعرّف على أذواق جامعيها الفنية. هذا بطرف النظرطبعا عن معزوفات البيانو المختارة بعناية قصد مرافقة عشاء الغفلة الفاخر. وجميعها وقائع لا يتفق حصولها بالمرة مع الشخصية القاعدية الثقافية لأولئك الذين تمت دعوتهم لحضور هذا العشاء ومع أمزجتهم الوضيعة(وزير في نظام سياسي فاسد، ورجل دين منافق، وصحفي مأجور، وغانية تتعيش من رديء أعمالها الاستعراضية القبيحة).
قد ينم هذا الاختيار عن رغبة في تفادي التخصيص المكاني أو الزماني أيضا، حتى وإن لم يخل أمر حضوره من إدخال بعض الارباك الذي حال أحيانا دون حاجة القارئ إلى ردّ الوقائع إلى إطار دقيق يسمح بالمصادقة على حقيقة حصولها الآن وهنا،وضمن الواقع المعقّد والسياقات المثيرة التي نعيشها.
"عشاء لثمانية أشخاص" تجربة روائية ثانية وقّعتها دكتوراه جامعة كامبريدج البريطانية والكاتبة التونسيّة العراقية سمر سمير المزغني، وهي من حضي بشرف التسجيل في مناسبتين ضمن كتاب غينيس للأرقام القياسيّة،باعتبارها أصغر قصاصة في العالم. فقد سبق لها وهي القادمة على عجل إلى عالم الأدبأن أصدرتما لا يقل عن 17 قصة للأطفال تم تحويل العديد منها إلى أعمال تلفزيونية عربية. كما صدرت لها روية أولى حملت عنوان "أشياء"،حاولت من خلالها الجوسفي سمك مسارات حياة عائلة مشتتة، عانى أفرادها أيضا من قسوة الوحدة،وزادالإدمان في محنتها،فانقلبت "الأشياء"إلى أبطال حدّدت في العمق مناحي حكاياتها الغريبة ووقائعها المؤلمة.

 

 

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115