الثورة بين استدعاء الامل وخيانته

" ما من مظاهر نعرفها في الحياة تُقارع ظاهرة الثورة في قدرتها على استدعاء الأمل، وإلهامه، وأيضا خيانته "!

(اصف بيات، كاتب واستاذ علم الاجتماع)

لنبدأ بهذه القصة الطريفة لكاتب روسي ساخر: سنة 1920 حين أطلق فلاديمير لينين، منظّر الثورة الروسية وزعيمها، شعاره الشهير: "الشيوعية هي سلطة السوفيات مع الكهرباء." كان برنامجه إيصال النور الكهربائي الى كل مناطق البلاد الشاسعة، آنذاك ،كتب الكاتب الروسي ، مخائيل زوشينكو (Mikhail Zoschinko) ، قصة ذات ابعاد رمزية عنوانها "الفقر" ، تقول انه حين ادخل الكاتب الكهرباء الى شقته، ظهر مع الإضاءة الساطعة ، الكاشفة لكل ارجاء البيوت ، ما لم يكن يكشفه المصباح الزيتي الخافت : فقر مدقع وقذارة مقرفة في كل الاركان حيث "ما ان تضغط على الزر ، الان ، حتى ترى كل التفاصيل المزعجة: سرير برزت نتوءاته وفراش ممزق واريكة كان يعتقد الكاتب انها جيّدة فانكشفت بطانتها وحشرات تهرول بعيدا وهي تحاول ان تنقذ نفسها من الضوء ونعل احدهم القديم في زاوية..." احزنه واحرجه ما رأى ،لذلك، فضّل العودة الى المصباح الزيتي حتى يخفي الفقر الذي يعيشه وقال في الأخير : " أيها الاصدقاء !نور الكهرباء امر جيّد ، لكن الحياة تحت ضوئه ليست كذلك." فالشقة التي كانت "مستورة " بشبه ظلامها، أضحت كل عيوبها مكشوفة.
لم يكن زوشينكو من الكتاب الذين كانوا يروجون للبروبغندا السائدة ، فقد قال في عديد المرات انه لا يحمل ايديولوجيا ولا ينتمي الى اي حزب ، لكن سرّ حب الناس لكتاباته وشهرته الفائقة في انه كان يريد ، عبر فكاهة جميلة وسخرية محببة، دفع الكآبة التي يشعر بها عموم الناس يوميا ، وفي نفس الان كان يبعث برسالة واضحة ، ازعجت السلطات السوفياتية ، خاصة زمن حكم ستالين ، رسالة مفادها ان المواطن ، ينتظر من الثورة برامج تحسّن وضعه الاجتماعي وتعطيه الامل وتمنحه الحرية، لا الى ايديولوجيا دعائية تحلّق فوق واقعه البائس وتغطي على فقره المدقع.
الثورة التونسية ، التي فتحت الباب امام ثورات عربية اخرى ، لم تكن تحمل ايديولوجيا ولا كانت تقودها زعامات حزبية مؤثرة ، وربما كان هذا سبب الالتفاف الجماهيري حولها ، لكن ما ان سطعنا نور الحرية الذي لم نعشه منذ استقلال البلاد ، حتى ظهرت كل عيوبنا ، فقرنا السياسي وانفعالاتنا الايديولوجية واستعداد النخب السياسية والمدنية لإعادة انتاج كل الكوارث التي ثار ضدها الشعب ، واذا ما اسلمنا مع عزمي بشارة بان النخب السياسية هي التي تتحكم (بنسبة كبيرة ) في عملية الانتقال الديمقراطي وان الثقافة السياسية لهذه النخب هي التي تؤثر في الثقافة السياسية للشعوب ، فإننا امام انفلات سياسي اذهل جلّ المراقبين : محاولة السيطرة على اجهزة الدولة بكل الوسائل من منطلق الغنيمة وعودة الزبونية ومظاهر الفساد والتوافقات المغشوشة والصراعات الهامشية واهمال قضايا الشعب..، فلا كانت النخب قادرة على اعادة بناء الدولة كهيكل له حرمته وسيادته واستقلاليته ولا هي كانت قادرة على بناء ديمقراطية صلبة عبر الاسراع بتكوين مؤسسات مستقلة تحميها ، وقد تمكن شعور خادع وغرور من الجميع مفاده ان الديمقراطية حاصلة ومستمرة ولا يمكن الرجوع الى الوراء ، ولم يدركوا ان الشعب ربط نجاح الديمقراطية بعديد المطالب ، ومنها تقدم اقتصادي ملموس وتوازن جهوي يعيد الاعتبار للجهات المحرومة وفرص تشغيل وتنمية حقيقية.
لذلك ما ان اتخذ قيس سعيد قراره بطي صفحة الانتقال الديمقراطي وتكريس حكمه الفردي حتى وجدت النخب السياسية القديمة نفسها معزولة تماما ودون سند شعبي يحميها. فكيف وصلت الأوضاع الى ما نحن عليه اليوم؟ غياب النضج السياسي الجامع، الذي يمتلك فهما جيّدا للمتغيرات ورؤية شاملة للبيئة الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية؟ أم استفاقة الغول الأيديولوجي الذي ظل في حالة سبات طيلة أسابيع الثورة؟
يعتقد أستاذ علم الاجتماع الأمريكي، اصف بيات، الذي له معرفة عميقة بالشرق الأوسط وشمال افريقيا ودرس نُظمها السياسية وحركاتها الاجتماعية لعقود ، ان ثورات الربيع العربي جاءت في مناخ عالمي غابت فيه "الأيديولوجيا الثورية" ، لذلك هي تختلف عن تلك التي وقعت في القرن العشرين ، مثلا ،في كوبا ونيكارغوا وايران الإسلامية ، فهي- أي ثورات الربيع العربي- لم تقطع نهائيا مع اقتصاد السوق ولا هي كانت معادية للرأسمالية والغرب ، اذ كان سقفها منخفضا ، يطرح قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ومفهوما غامضا وسائلا ، للعدالة الاجتماعية ... "افتقار ثورات الربيع العربي إلى الإيديولوجيا وميوعة تنسيقها وغياب أي قيادة جامعة أو مفاهيم فكريّة لديها، أمور لم يسبق لها مثيل تقريباً. ولكن الأشدّ ادهاشاً هو افتقارها إلى أي نوع من النزعة الجذريّة التي وسمت الثورات السابقة، وأن مُثُل الديمقراطيّة العميقة والمساواة وعلاقات التملّك المنصفة والعدالة الاجتماعيّة، بهتت أو كانت موضع خُطب، أكثر مما كان يُحفزها اهتمام صادق يرتكز على رؤية استراتيجيّة، أو برامج ملموسة. في الحقيقة، يبقى السؤال هو إذا ما كان الذي نجم عن الربيع العربي هو ثورات فعلاً، بالمعنى الذي كان للثورات الرديفة في القرن العشرين".
وسوف لن نناقش اصف بيات حول الثورة ومدى قطيعتها مع الماضي، فاهمّ الثورات وأكثرها عنفا وقطعا في التاريخ عرفت ارتدادات مربكة اعادت الماضي بكل مساوئه، وفي بعض مراحل يأس فيكتور هوغو (Victor Hugo) خلال حكم نابليون الثالث "نابليون الصغير" كما كان يسميه، بعد الانقلاب العسكري سنة 1851، قال الشاعر والكاتب ان البؤس يدفع الناس الى الثورة، ولكن الثورة قد تعيد الناس الى البؤس...
لكن سنناقشه في اهمية الرافعة الايديولوجية التي يتأسف بيات لغيابها زمن الاحتجاجات ، اذ أنني اعتقد جازما ان الايديولوجيا في سيرورتها، هي، عبر حقائقها المطلقة واستقطابها الشديد وتعاليمها الصارمة ورفضها التنسيب، عامل تقسيم وفصل وافشال وهي استنطاق لمرجعية تعتبرها مقدسة، تماما مثل استنطاق النص الديني ، الذي يحوله المفسر عبر تأويلاته وترجماته الى مرجعيات لا تقبل التشكيك ، تبتعد او تقترب من محتوى النص نفسه ، لكن ما من ايديولوجيا ، في الحكم، نجحت في تحقيق الرفاه للشعب وحققت امانيه ، بالعكس اغلب ايديولوجيات القرن العشرين كانت لها عواقب كارثية ، كما ان الايديولوجيات القومية العربية التي جاءت كلها الى الحكم عبر الانقلابات العسكرية وسيطرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين لم تحقق الا الهزائم المحزنة خارجيا والاستبداد المريع في اوطانها ، وما وقع كشفه اخيرا في سوريا من مقابر جماعية وسجون تحاكي المسالخ وروايات مروعة عن اساليب التعذيب والسحل وقطع الأطراف ،الا ادلة اخرى على رعب الايديولوجيا وفشلها الذريع.
وفي تونس ، كان حضور الأيديولوجيا بتقسيماتها القاطعة وانغلاقها المرضي وتعاليمها الصارمة ملفتا منذ فُتح المجال السياسي على مصراعيه بعد سقوط النظام في 2011، لكنها كانت اكثر حضورا واشد ارباكا لحظة إجراءات قيس سعيد الاستثنائية حين كان على عديد الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والحقوقية والنقابية ان تختار بين التمسك بالديمقراطية ، مصدر كينونتها واشعاعها واحترام العالم لها، وبين الثأر من الخصوم مهما كانت الطريقة، وكانت النتيجة ان فقد الجميع ، لا فقط مكانته الحزبية والمدنية والحقوقية والنقابية ، بل وكذلك مصداقيته، ولا ادل على ذلك ما تعيشه هذه الأحزاب والمنظمات من ترهل وانقسام وضعف.
لكن هل ربحت السلطة الحالية، عبر حكمها الفردي ومفهومها الخاص للديمقراطية، الرهان نهائيا؟ سأل عبد الرحمان الكواكبي في كتابه الشهير " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد " عن ماهية الحكومة العادلة: " هل هي سلطة امتلاك فرد لجمع، يتصرّف في رقابهم، ويتمتّع بأعمالهم ويفعل بإرادته ما يشاء، أم هي وكالة تُقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العمومية؟" في الإجابة عن هذا السؤال المحوري معنى الديمقراطية، الديمقراطية الحقيقية، وكذلك ضمان الاستقرار.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115