التي تمر بها تونس وهي تنشد تحقيق العيش الكريم لطبقاتها الدنيا والمتوسطة التي تردت حالتها المعيشية حتى بالنسبة لما كانت عليه في عهد بن علي.
ونحن لسنا من السذاجة بحيث نتصور أن مواجهة هذه الضغوطات أمر سهل المنال، فالحالة الإقتصادية والمالية للبلاد من التدهور بحيث تستحيل معالجتها بمجرد تغيير المسؤولين السابقين أو الحاليين على رأس الحكومات والمؤسسات أو بإقصاء أطراف محسوبة على منظومة الحكم السابقة وتعويضها بأنصار الرئيس: فمهما كانت درجة مسؤولية منظومة الحكم لفترة 2011-2021 عن التقصير أو القصور في التعامل مع المؤشرات السلبية للوضع الإقتصادي وللمديونية والمالية العمومية إلا أنها لا ينبغي أن تحجب عن المراقب الموضوعي حقيقة مزدوجة جانبها الأول أن «الثورة» ورثت إختلالات هيكلية مزمنة إنضافت إليها سياسات خطيرة إتبعت منذ الإنخراط سنة 1986 في برنامج «التعديل الهيكلي» والنتائج السلبية لإتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي في التسعينات وأبرزها تفكك الصناعة الوطنية، أما الجانب الثاني فهو أن الإخلالات في أسلوب التعامل مع الأوضاع المعقدة التي أفرزتها إنتفاضة 17-14 بما فيها مضاعفات الحرية المنفلتة والإحتجاجات بطريقة غلق مواقع الإنتاج-لم تنته بعد تحول 25 جويلية وأن محدودية الإنجاز وحالة التذبذب شكلتا الميزة الأساسية للمرحلة التي أعقبته وذلك رغم تغير السياق السياسي ونظام الحكم من منظومة سياسية ليبرالية تحكمها الأحزاب والبرلمان وسياسة إقتصادية شبه ليبرالية إلى نظام رئاسوي قوي وتوجه إقتصادي شعبوي-وطني.
من المفيد التنبيه إلى أننا نميز بين السياسة الشعبوية والسياسة الشعبية: فالتسمية الثانية نطلقها على كل سياسة تستهدف وتحقق منجزات فعلية إستجابة للحاجات الموضوعية للأغلبية الساحقة المؤلفة من الطبقات الكادحة والهامشية والفئات الوسطى المتضررة-وهي سياسات إتبعتها تاريخيا أحزاب حاملة لإيديولوجية نخبوية مسلحة بنظريات متقدمة كحال الأحزاب الشيوعية والإشتراكية عبر العالم وكحال بعض الأحزاب القومية والعربية-ولكن يمكن أيضا أن تتبعها قوى وأحزاب حاملة لإيديولوجيات شعبوية.
والواقع أن هذه الأخيرة متنوعة التركيبة والتوجه ولكنها تشترك في أمرين أولهما كونها خطاب يمتدح الشعب ويتقرب منه وينسب إليه كل الفضائل فيما يحط من شأن النخب، وفي محاولته كسب الشعب يغدق الوعود بالرخاء وتحقيق المطالب أو الرغبات ويستسهل المصاعب القائمة دونها، وثانيهما كونها أكثر الإيديولوجيات إختزالا للواقع وتبسيطا للتناقضات ومن ذلك تقديمها للشعب في صورة كتلة موحدة تعاني من هيمنة نخب توصف جملة بالخيانة والفساد ألخ، وفي هذه الحالة تصبح الشعبوية أستراتيجية سياسية لبلوغ الزعامة وتحقيق السيطرة. هذا هو الشأن بالنسبة للشعبويات جميعها على الصعيد العالمي فماذا بالنسبة لتونس؟
شعبوية إقتصادية بدون وسائلها:
لن نتطرق في ما يلي إلا عرضا لتجليات الشعبوية في الرؤى والإجراءات التي تهم المنظومة السياسية والمؤسساتية بما فيها بناء الدولة وعلاقة النظام بالمجتمع السياسي المعارض والمجتمع المدني بل نقصر حديثنا على الشعبوية في الحقل الإقتصادي. هنا تتمثل المشكلة في السعي لإستمالة الشعب وطلب المشروعية بإعتماد الحل الأسهل وهو إعادة توزيع الثروة القومية بدلا من العمل على إنتاجها كشرط لديمومة عملية التوزيع. قلنا الحل الأسهل وقد يكون كذلك ولكنه الأكثر كلفة من حيث نتائجه السلبية على البنية الإنتاجية وعلى السلوك الجماعي لمجتمع يستهلك ولا يعمل. علاوة على ذلك تتحول هذه المشكلة إلى معضلة عندما تتجه النية ويتجه الخطاب إلى أعادة توزيع ثروة متخيلة بل وهمية إلى حد كبير. ولا يخفى على أحد أن خطابا شعبويا ظهر في تونس بعد الثورة وعلى لسان رئيس الجمهورية قيس سعيد في المقام الأول يقول أن تونس غنية وزاخرة بالثروات ولكنها ثروات منهوبةأو منسية وما علينا إلا إستردادها أو إستخراج ما غيب منها وتوزيعها على أساس العدل الإجتماعي، وكأن ذلك هو السبيل للخروج من الأزمة.
الثابت عندنا أن تونس ظلمتها صروف التاريخ والجغرافيا أو بالاحرى الجيولوجيا وجعلتها بلدا شبه مفتقر إلى ما تتوفر عليه الجارتان الغربية والشرقية من غاز ونفط بحيث تكاد تقتصر ثروته على الفسفاط، وهي أيضا حال المغرب مع الفارق المتمثل في ان الوضع السياسي المستقر هناك كان مساعدا على تحقيق نتائج إيجابية في مجال النمو ونجاحات اقتصادية فيما افضت الثورة التونسية وللأسف إلى تطورات سلبية على هذا الصعيد ومنها أن الانتاج من الفسفاط لا يتجاوز اليوم ثلث ما تحقق قبلها وأن ترتيب تونس تراجع من المكانة الثالثة الى العاشرة عالميا.
في كل الأحوال فان المعطى الأساسي أي عدم وجود ريع من الثروات الباطنية يستحق الذكر كان من نتائجه أن الشعبوية الاقتصادية التوزيعية غير ممكنة في تونس مقارنة بما حصل في الجارتين خصوصا الشرقية، كما كان لاصطدام الرئيس الحبيب بورقيبة بهذه الحقيقة دور في دعوته الملحة للتعويض عن هذا النقص بتنمية الثروة البشرية بالتعويل على الادمغة (أو المادة الشخمة كما كان يحب أن يقول) وإنتاج الكفاءات، وهو ما تحقق لتونس قبل أن تدخل منطقة الزوابع جراء أخطاء الستينات وما تلاها منذ السبعينات من اتباع سياسات فقرت الريف وضحت بالنشاط الفلاحي لفائدة نشاطين متخارجين هما السياحة والصناعات التصديرية ذات القيمة المضافة الضعيفة في الغالب.
كان من نتيجة هذا المنوال المختل والمشوه من التنمية إعادة الانتاج الموسع لظاهرة إخلاء البوادي والأرياف وللتفقير والهامشية والتنمية وبما أفرز في المحصلة أسبابا للسخط والثورة، وبالتوازي مع ذلك تبريرا للعطالة والقعود والسعي للكسب بأيسر الطرق بما فيها التعويل على الدولة لتقوم بتوزيع ثروة لا يتم إنتاجها والكدح من اجلها. والملاحظ أن هذه العقلية التواكلية كان قد وظفها نظام بن علي لإقامة منظومة زبائنية في محاولة لشراء ولاء التونسيين، ثم اعتمدها بعد الثورة سياسيون انتهازيون ومقامرون لربح الاصوات في انتخابات المجلس التاسيسي كما هو معروف من الخطاب الشعبوي لباعث كتلة «العريضة الشعبية»، ثم في انتخابات 2019 عندما تلاعب نبيل القروي بهذه الاستعدادات المكتسبة. كما تضافرت هذه النزوعات مع مطالب مشروعة تتعلق بالتوازن بين الجهات وشبهات الفساد والنهب في قطاع الانتاج النفطي لتؤدي الى تحركات احتجاجية رافعة لشعارات شعبوية راديكالية على غرار «وينو البترول».
ضمن هذا السياق العام جاءت الشعبوية القيسية لتحقق-خلافا للتعبيرات الأخرى-نجاحا كبيرا ساعد عليه قصور أداء منظومة الحكم وإنغماس النخب المتنفذة في المناورات السياسوية على حساب الإنكباب على قضايا التنمية والنمو والعدالة الإجتماعية ومحاربة الفساد .
غياب الرؤية البديلة والمشروع الإنمائي التشاركي:
الأمر الواضح هو ان الأستاذ قيس سعيد لم يكن له برنامج أو مشروع للتنمية الإقتصادية والإجتماعية ولم يكن يقبل أصلا بإقتراح الخطوط العريضة لسياسة إقتصادية أو جبائية بديلة كما هو شأن الأحزاب السياسية. فمنذ توليه منصب الرئاسة حتى جويلية 2021 إنتقل من وضع الترقب إلى مهاجمة خصوم لم يسمّهم من المنظومة القديمة ولم يقدم مبادرة تشريعية حتى في ما يتعلق بالصلح الجزائي، ومنذ 25 جويلية إلى موفى 2024 إكتفى بالتعبير عن رفضه الشديد للسياسة المالية التي ورثها، كما دعى وزارة المالية والتجارة والبنك المركزي إلى إتخاذ إجراءات تقشفية متعلقة بسياسة الدعم والتوقف عن التعاطي مع قضية التداين مثل ما كان يحصل سابقا، ولكن دون أن يتقدم بمشروع إقتصادي بديل ومتكامل. فما الذي حال دون ذلك؟
الراجح عندنا سببان إثنان متداخلان. أولهما أن الهاجس الأساسي للرئيس قيس سعيد تمثل في تفكيك المنظومة السياسية والمؤسساتية الليبرالية المنافية لتصوره حول كيفية تجسيد مبدإ السيادة الشعبية ومفهومه العضوي لوحدة السلطة ووحدة الدولة، وقد أعطى لهذه المهمة أولوية مطلقة وجسمها عبر تجميع كافة السلط بين يديه وتغيير الدستور الذي أتى به للرئاسة وضبط القضاء إلى الحد الذي إعتبر تدجينا للمؤسسة وكذلك بالحد من نشاط الأحزاب وإستقلالية الجماعات المهنية والجمعيات وأخيرا بتركيز برلمان ذي غرفتين مع الحرص على ضمان ولائه.
أما السبب الثاني لإحجام الرئيس عن بلورة معالم سياسة إقتصادية واضحة فيكمن في أن مشروعه السياسي الأصلي ينص على إقامة مجالس محلية وجهوية وإقليمية تكون هي الطرف الذي يقترح ويعمل على تجسيد المشاريع الإنمائية على هذه الأصعدة، وهو ما يمكن إعتباره تفعيلا لمقولته الشهيرة: «الشعب يريد ويعرف ما يريد» ولنظرية البناء إنطلاقا من القاعدة. بيد أن التجربة الملموسة كشفت عن تعذر هذا الأمر ليس فقط بسبب غياب الإطار التشريعي وغموض الصلاحيات وعدم إستقرار تركيبة الهيئات المذكورة، وأنما كذلك لإستحالة إيجاد حل للمعضلات التنموية لتونس في المرحلة التاريخية الراهنة دون توفر تصور شامل وتخطيط وسياسات عامة وإطار قانوني وأجهزة مركزية للتصور ومتابعة التنفيذ والمراقبة.
هذا ما يفسر غياب المنجز في المجال الإنمائي وبوسعنا أن نضيف إليه ما يلي: كان يمكن نظريا الحد من تجاوز نقص دراية الرئيس بالشأن الإقتصادية بألإستعانة بهيئة مستشارين أكفاء ومسموعين كما يفعل سائر رؤساء الدول، وكان من المفروض أيضا ومن المفيد فتح حوار وطني مع مختلف مكونات المجتمع السياسي والمدني للتوصل إلى مشروع مشترك لإنقاذ تونس يتجند الجميع لإنجاحه وهو ما يفترض توافقا أدنى رفضه الرئيس لحد الآن.
وفي غياب رؤية إستراتيجية واضحة مسنودة بتوافق وطني وتمش اقتصادي ومالي يجمع بين الحزم والواقعية في التعامل مع الاكراهات ويوفر مناخات إيجابية ومشجعة، لا غرابة أن تشهد تونس في السنين الأخيرة تقلص كل من الإستثمارات ونوايا الإستثمار الداخلية والخارجية وحالة من التخوف لها انعكاسات سلبية للغاية على وتيرة النمو وخلق مواطن الشغل ومداخيل الدولة، ولا عجب أيضا أن تبقى أية إجراءات إجتماعية لصالح الفئات الكادحة بمثابة عمليات جزئية وكل إجراءات للمحافظة على السيادة الوطنية ولكنها غير مدروسة بعناية بمثابة ردود أفعال مكلفة قد نضطر لمراجعتها لاحقا.
خلاصة القول أن نظام 25 جويلية ورث وضعا إقتصاديا وماليا وإجتماعيا بالغ الصعوبة والتعقيد ويتطلب إتخاذ تدابير قوية وجذرية للتحرر من السياسات التي أنتجت الركود والعجز ولكنها تدابير يصعب أن توفق من دون الإنطلاق من معطيات الواقع ومراعاة مقتضيات التدرج وكذلك دون إشراك فعلي وواسع للكفاءات والطاقات الوطنية، الأمر الذي حالت دونه النزعة الإقصائية. لا عجب والحالة هذه أن نرى مشهدا من التذبذب والحيرة إزاء ما يتعين فعله من أجل تونس وأن يعكس قانونا المالية والميزانية تناقضات شعبوية محتارة بين المتاح والمأمول وبين الواقع والحلم.
ثانيا الشعبوية الحاكمة بين الإكراهات المالية ومسعى تحصيل المشروعية السياسية
لا يخفى أن التحديات والمصاعب الاقتصادية والمالية بانعكاساتها المحتملة على الاوضاع الإجتماعية تكتسي حجما وخطورة كبيرين. لنذكر أبرزها:
الأول: تحدي إرساء منوال تنموي يضمن الإنتاج المطرد للثروة وتوزيعها بالعدل وبما يوفر العيش الكريم للأغلبية الساحقة المحرومة منه ويحد من ظواهر الفقر والبطالة والتهميش التي تضطر قسما متزايدا من السكان للبحث عن حل في الهجرة.
الثاني: تحدي الهوة الفاصلة ما بين هذا المطلب والموارد المتوفرة حاليا بسبب تدني وتيرة النمو منذ الثورة وتدحرجها في السنوات الأخيرة. للإشارة وبخصوص سنة 2024 تتحدث وزارة المالية عن 1,6% وصندوق النقد الدولي عن 1,3% وبعض الخبراء عن 1,2% تعطينا نتيجة صفرية إذا إعتبرنا النمو السكاني. والطبع فإن هذا الركود الاقتصادي ستكون له نتائج سلبية على موارد الدولة بينما يقتضي الوضع القيام بجهد كبير في مجالي الإنفاق والإستثمار.
واذا أردنا الدقة فإن هذه التحديات تتوزع بين جملة من الضغوط والمشاكل أبرزها:
- مشكلة تمويل الجهد الإنمائي ودور كل من الإستثمار العمومي والخاص (الداخلي والخارجي) وكيفية التعاطي مع تضخم نفقات الدولة.
- كيفية التعامل مع تضخم التداين الخارجي واستحقاقاته وحدود التداين العمومي الداخلي.
مشكلة العجز التجاري وكيفية الحد منه.
-مشكلة عجز الشركات العمومية وكذلك عجز المؤسسات العمومية العاملة في قطاعات الاستشفاء وإنتاج الدواء وإستيراده والتأمين على المرض والتقاعد والحيطة الإجتماعية.
- مشكلة تضخم القطاع الموازي الذي يمثل نصف حجم الإقتصاد الكلي ولا يدفع إلا النزر القليل للدولة.
مشكلة مسالك التوزيع وغلاء الأسعار والتراجع المستمر للقدرة الشرائية.
- مشكلات ظروف العيش والعمل للفئات الدنيا والعاملات الأجيرات في الفلاحة
- مشكلات الشح المائي وتدهور البينة.
مبدئيا هذه المشاكل لا يمكن ولا يحق لاحد أن ينفرد بتقرير كيفية معالجتها: لا الهيئات المهنية والنقابية والسياسية التي كانت مؤثرة في القرار ولا مؤسسة الدولة ولا النظام القائم. لكن في ظل التحول الذي حصل منذ 25 جويلية وادى إلى تجميع السلط بيد واحدة واستبعاد الهيئات السياسية والاقتصادية وغالب الكفاءات من المشاركة في اعداد واتخاذ القرارات-تشهد السياسة الاقتصادية والمالية حالة من الاضطراب والتوتر حتى وإن سجلنا بوادر لتأكيد الدور الاجتماعي للدولة وإعادة توزيع الثروة وإستهداف التحالف ما بين الثروة والفساد.
1. في تذبذب وتناقضات السياسة الإقتصادية والمالية:
أبرز تجليات هذه الحيرة وما أفرزت من تناقضات هي الإزدواجية العجيبة التي عاشها النظام وعاشتها تونس في عهد حكومة نجلاء بودن. فمن جهة إتجهت هذه الحكومة إلى مواصلة العمل بخيارات ما قبل 25 جويلية بما في ذلك البحث عن الإقتراض الخارجي عبر عقد إتفاق مع صندوق النقد الدولي يستجيب لشرطيه الأساسيين وهما الحد من نفقات الدعم وإعادة هيكلة الشركات العمومية بما في ذلك خيار الخوصصة.
في المقابل ومن جهة رئيس الدولة «معارضة» لتوجه الحكومة عبر عنها في مناسبات عديدة بإعتماد خطاب سيادي رافض للإنصياع لمطالب صندوق النقد الدولي وتصنيفات وكالات الترقيم الدولي، وفي ظل المناخ الإقتصادي والمالي البالغ الصعوبة والعلاقة المتوترة بالمؤسسات المالية الدولية جاء تعامل النظام حاملا لمفارقات وتناقضات تجلت كالتالي:
في باب المديونية وأخذا بالإعتبار عجز تونس عن سداد ديونها الخارجية بمجهودها الذاتي تم الذهاب إلى حل قوامه رفض تداين أقل كلفة ماليا لدى صندوق النقد الدولي (1% نسبة فائدة) بالشروط المذكورة مقابل إقتراض مرتفع الكلفة ماليا ولكن دون شروط على غرار ما حصل مع البنك الإفريقي للتنمية (10% نسبة فائدة).
وبخصوص المؤسسات العمومية قرر الرئيس عدم التفويت فيها مخيرا على ذلك سياسة تجمع بين التقشف والتطهير ومقاومة الفساد.
وبالمقابل فإن موضوع الدعم تم التعاطي معه في إتجاه قريب مما إقترحه صندوق النقد الدولي وذلك بترفيع أسعار المحروقات وبسياسة تقشفية قوامها الحد من حجم وكلفة الواردات من الحبوب والزيت النباتي والسكر والشاي والقهوة بما تسبب في حالة من الندرة وأدخل هذه المواد في السوق السوداء وخلق متاعب في إقتناء الحاجيات وذلك طيلة سنة 2023، علما بأن هذه الأزمة بدأت تخف في الأشهر والأسابيع الأخيرة.
وعلاوة على هذه الإشكالات كان على النظام إيجاد حل لتعاظم النفقات العمومية مقابل شح موارد الدولة. فالمسألة التي إستأثرت بإهتمام الحكومة هي كيفية مجابهة إرتفاع المصاريف العمومية والحل الذي إنخرطت فيه وعكسه قانون المالية هو إستجلاب الموارد بالمزيد من الضغط الجبائي، الشيئ الذي جعل بعض الخبراء يقولون أن وزارة المالية يحكمها عقل جبائي وليس عقل إقتصادي.
من ناحية ثانية من المهم الإنتباه إلى الإنعكاسات السلبية المحتملة لضغط جبائي بلغ معدله 25% ويعد الأعلى في إفريقيا وفي نفس الوقت إستمرار
ظاهرة التهرب الضريبي والتهرب الإجتماعي بوسائل عدة من ضمنها اللجوء للنشاط في القطاع الموازي.
2. الإجراءات الجبائية: إستهداف للرأسمال الكبير وتوجه إجتماعي جزئي
يأتي هذا التوجه في سياق تتضافر فيه الإعتبارات المالية أي ضرورة مجابهة تنامي نفقات الدولة في مجالات الإستثمار وارجاع الديون والتصرف وغيرها مع الاعتبارات السياسية ذات الصلة باستعادة قوة الدولة ومتطلبات الحفاظ على المشروعية والمساندة الشعبية-لتقود إلى خيار ثلاثي الأضلاع قوامه
- مواصلة السير في نهج الاعتماد على الذات والتقشف
- إتخاذ إجراءات لفائدة الفئات الهشة وضعيفة الدخل
- تشديد الحملة على الفساد
في هذا السياق يجري تطبيق سياسة جبائية صارمة على الشركات واصحاب الأعمال مع ما يبدو كتركيز على عناصر نافذة ضمن البورجوازية الكبيرة يشتبه بانتفاعها من الفساد واخضاعها لمقتضيات الصلح الجزائي وبما يمكن من استدرار أموال لخزينة الدولة.
ضمن هذا الإطار نص قانون المالية لسنة 2025 على فرض أداء على ارباح البنوك وشركات التأمين والشركات المالية بنسبة تبلغ 40%، الشيء الذي آثار حفيظة وتذمر راس المال الكبير مثلما يتضح من رد الإتحاد التونسي للصناعة والتجارة على مشروع قانون المالية. كما أبدى الإتحاد امتعاضه من فرض أداء بنسبة 1% على شركات التأمين لغاية تمويل النظام المحدث للحماية الإجتماعية للعاملات الفلاحيات طبقا للمرحوم عدد 4 المؤرخ في 22 اكتوبر 2024.
من ناحية ثانية وفي قراءة لمدلول ما ادخل في قانون المالية من تعديل على سلم الاداءات الموظفة على الاجور تنازليا أو تصاعديا، يتضح أن مفعوله سيترجم عمليا فيي إرتفاع الأجر الصافي لفئة ما دون ثلاثة آلاف وخمسمائة دينار شهريا مقابل انخفاض الاجور التي تزيد عن ذلك .
ولئن بدا هذا المقترح بمثابة إجراء إجتماعي تقدمي الا انه أقرب موضوعيا إلى إجراء شعبوي يعيد توزيع الدخل لصالح العمال والموظفين الصغار والمتوسطين ولكن على حساب الموظفين «الكبار» من حملة الشهادات العليا واصحاب الاقدمية والذين لا يتمتعون بامتيازات وظيفية كالسيارة الادارية والسكن ووصولات البنزين، ومنهم على سبيل الذكر الاساتذة الجامعيون وأطباء الصحة العمومية والمهندسون والقضاة.
ومهما يكن من امر فإن إجراء كهذا كان سيجد تبريرا أو مقبولية لو جاء في إطار سياسة لتقاسم التضحيات بالعدل والانصاف بين مختلف الطبقات والشرائح الإجتماعية، سياسة تشمل توسيع قاعدة الضريبة إلى الفئات الناشطة في القطاع الموازي ورفع نسبة وحجم الضريبة الموظفة على اصحاب المهن الحرة كاطباء الممارسة الحرة والخبراء الجبائيين والمحاسبين والمهندسين المعماريين والمحامين والعدول المنفذين الى جانب التجار الكبار والمقاولين والناشطين في قطاعات الإعلام والفن والنشر والرياضة. الرياضة وغيرهم. فهذه الشرائح التي تحصل على مداخيل مرتفعة تفوق عديد المرات ما يحصل عليه كبار الموظفين ممن ذكرنا أمثلة عنهم لا يتم اخضاعها للواجب الجبائي بنفس القدر، مما يفرض التساؤل عن اسباب ودلالات هذه المفارقة، وما اذا كان الأمر يتعلق بتجنب الدولة مواجهة لوبيات المهن الحرة كماحصل عندما تراجعت حكومة مزالي أمامهم سنة 1983 وضحت بوزير المالية منصور معلى صاحب مشروع ترشيد الجباية ، وكذلك الامر في تراجع حكومة الشاهد سنة 2017 أمام هجمة نفس الأوساط.
كل هذا يحيلنا مجددا إلى حالة التذبذب وضعف الانسجام في رسم السياسة الإجتماعية وأدواتها في حقل الجباية إضافة إلى الضبابية و التردد الذي لا يزال يطبع رسم العلاقات مع الأطراف الخارجية والمؤسسات الدولية.
3. علاوة على ما تقدم فإن التوجهات الشعبوية في المجال الاقتصادي تتخذ مظاهر أخرى نكتفي الإشارة الموجزة إليها
ففي علاقة بما ذكرنا أعلاه عن وجود توجه لاستهداف ما يمكن ان يقع من تحالف بين أصحاب الأعمال و اوساط الفساد يسجل اعتماد المنهج الزجري للتعامل مع شبهات الفساد .ومع الإقرار بضرورة أن تضرب الدولة بقوة على مظاهر التحيل والاثراء غير المشروع ونهب الموارد الوطنية والثروات العمومية فإن المسارعة الى سجن المظنون فيهم بدل إعتماد أسلوب آخر كالإقامة الجبرية أخذا بالإعتبار أن أنشطة بعضهم لها إرتباط بالمصلحة الوطنية أمر يثير القلق. وكذلك الشأن بالنسبة للقضايا المطروحة للصلح الجزائي والتي تتم في ظل التعتيم ولا نعرف أن كانت تراعى فيها إستمرارية المؤسسة عندما تكون مفيدة للصالح العام.
وفي مجال مختلف نجد المشروع الرئاسي المتمثل في تركيز شبكة من الشركات الاهلية تحضى بمساعدة الدولة ولا نستغرب أن يتجسد ذلك في صدور مرسوم يمكنها من مساحات من الأراضي الدولية التي وقع العبث بها أو سوء استخدامها. وفي رأينا أن فكرة الشركات الأهلية إذا إندمجت ضمن آليات الإقتصاد التضامني والإجتماعي (الذي صدر قانون خاص به سنة 2019 ولم يتم تفعيله) ودعمتها آليات مرافقة ومراقبة ناجعة يمكن أن تسهم في بديل تشاركي ناجع يحل مشكل الحوكمة والتصرف ومشكلة ضعف مردود أراضي الدولة.
في ختام هذه المحاولة نقترح جملة من المبادئ يتم إعتبارها في معالجة قضايا التنمية والعدالة الإجتماعية وهي القضايا الأساسية التي تحكم السياسات الإقتصادية والمالية والإجتماعية للدولة:
فأولا تحتاج تونس إلى إنتهاج خيار إستراتيجي تضامني وإدماجي على كل الأصعدة. يشمل ذلك إتباع طريق الحوار والتشاركية في تحديد سبل إخراج البلاد من أزمتها الخانقة وإدارة شؤونها كما يشمل إنتهاج سياسة تنموية متكاملة وإدماجية ومراعية في أهدافها للجمع بين الفاعلية الإقتصادية وتحقيق التوازن بين الفئات والقطاعات والجهات. كما يعني الخيار التضامني والإدماجي بالضرورة عدم إقصاء أي طرف أو عنصر من عناصر إنتاج الثروة على أن لا تتضارب مصلحته الخاصة مع مصلحة المجموعة الوطنية وأن لا يتعاطى أنشطة تدخل في باب الإحتكار والفساد.
وثانيا تحتاج تونس الى جهد جبار للرفع في وتيرة إنتاج الثروة كشرط لتوزيع عادل لا يؤدي إلى قتل الدجاجة التي تبيض الذهب. بل أننا نتطلع بعد تجاوز تونس لكبوة طال أمدها إلى الانخراط في مشروع نهضة اقتصادية يمكن تونس من اللحاق ببلدان مغاربية وافريقية كنا معها في صف واحد بل سابقين لها واذا بها تتجاوزنا بسبب إنغماسنا في نزاعات إيديولوجية وسياسية معطلة بل مهلكة. وفي اعتقادنا أن تونس لها من كفاءات أبنائها وبناتها ما ييسر مهمة النهوض في اطار مشروع وطني جامع.
وثالثا أن الخروج من الاوضاع الصعبة التي تمر بها تونس يقتضي أمرين:
- من جهة اولى الاستعداد لتضحيات مؤلمة لن تكون مقبولة أو تحضى بشيئ من التفهم الا اذا اعتمدت مبدأي الانصاف والعدل في توزيع التضحيات بين الطبقات والجهات والافراد، بما يقتضيه ذلك من تفعيل مبدأ التمييز الايجابي لفائدة المناطق والفئات المتضررة من مناويل التنمية أو غياب التنمية أصلا.
- من جهة ثانية إعتماد الواقعية ومراعاة التدرج في اقتراح الحلول لمعضلاتنا المتراكمة ومن ذلك اسلوب معالجة الوضعية الصعبة للمديونية: إذ لا نتصور مع تفضيلنا للإعتماد على الذات أن تونس يمكنها الاستغناء في هذه المرحلة عن الاقتراض لمواجهة حاجات الاستثمار. وإذا كانت لنا أهداف طموحة فلا بد من البحث عن حلول مع صندوق النقد الدولي أو غيره للحصول على قروض ميسرة أو لتحويل الديون الى استثمارات أو اعادة الجدولة بشروط معقولة. في الان ذاته لا بد من الإنتباه الى حدود طاقة التداين الداخلي وما يفرزه الشطط في اللجوء الى تمويلات بنكية تونسية من نتائج سلبية على النشاط الاقتصادي.