وبعد خمس سنوات عجاف اتسمت بتفضيل التحوّل السياسي على التحول الاقتصادي حيث اتسمت السياسات الاقتصادية المتبعة بنوع من الضبابية وعدم الوضوح في الرؤية من طرف خمس رؤساء حكومات تداولوا على السلطة، الفخفاخ، المشيشي، بودن، الحناشي والمدوري، أي بمعدل سنة لكل رئيس حكومة. هذا التغيير السريع في رؤساء الحكومات من طرف رئيس الجمهورية، وهو الذي يمتلك كل الصلوحيات في تعيينهم بدون أي تدخل لا من الأحزاب ولا من المنظمات الاجتماعية، قد يعكس هذا التباعد بين مشروعه المتمثل في مقاومة الفساد والاعتماد على الذات والسيادة الوطنية من ناحية وعدم قدرة هذه الحكومات على تنزيلها على أرض الواقع من ناحية أخرى.
ولعل جزءا هاما من الشعب التونسي جدد ثقته لرئيس الجمهورية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة اقتناعا منه بجدوى هذا المشروع وبنجاح رئيس الجمهورية في تحقيقه. لكن الأغلبية الصامتة، والتي لم تشارك في الانتخابات، قد لا تكون مقتنعة بجدوى هذا المشروع أو على الأقل بطريقة تنزيله على أرض الواقع، فما يهمها بالأساس معاشها اليومي ومقدرتها الشرائية ولا غير وهي التي تهرئت بمفعول الانفلات الملحوظ في الأسعار. فعزوف هذه الأغلبية الصامتة على المشاركة في الانتخابات، في تصوري، يعود الى فقدان الثقة في القدرة على تغيير الواقع المعاش من طرف كل المرشحين للرئاسية، فهي ترى أن منظومة 24 جويلية فضّلت الديمقراطية على التنمية أي الانتقال السياسي على الانتقال الاقتصادي وقدّمت ديمقراطية منفلتة وفاشلة اقتصاديا أي "ديمقراطية ما توكلش الخبز" وأن منظومة 25 جويلية فضّلت كذلك انتقالا سياسيا من نوع آخر لكنه أفضى كذلك الى فشل اقتصادي ذريع. هذا العزوف الكبير من طرف الشباب من ناحية ومن طرف أصحاب المستويات التعليمية العالية من ناحية أخرى يفسّر فقدان الأمل عند الكثيرين منهم على القدرة على التغيير وهو الذي دفع الشباب الى الهجرة الى الخارج.
في اعتقادي، لا بد أن تكون أولويات المرحلة القادمة اقتصادية بامتياز، تعيد الثقة والأمل للشباب ولرجال الأعمال وأن توظّف الشعارات التي يحملها رئيس الجمهورية، وهي ترضي جزءا معتبرا من الشعب التونسي المشارك في الانتخابات، لخدمة الاقتصاد لا الى تعطيله ووضع العراقيل حوله.
1) القضاء على الفساد مهم جدا لكنه يمر عبر تغيير القوانين التي تسمح بالفساد ولن يزول الفساد بإيقاف المشتبه بهم في الفساد. فالقوانين التي تسمح بالفساد في تونس عديدة ولا بد من تغيييرها :
- ككراس الشروط التي توضع على مقاس القلة من المستثمرين والتي أسست في وقت ما الى اقتصاد الريع
- غياب المنافسة بين الفاعلين الاقتصاديين في قطاعات معيّنة كقطاع البنوك والتي أثمرت تغوّلا للقطاع المالي على حساب الاقتصاد الحقيقي وأسهم في الثراء الفاحش لأصحاب البنوك بدون أية منفعة للاقتصاد سوى المزيد من التضخم المالي
- قانون الصفقات العمومية والذي كان السبب الرئيسي في تعطيل المشاريع العمومية
- العدد الضخم للإجراءات الإدارية والتي كانت عاملا مهما لتكريس مناخ أعمال غير جالب للاستثمار
- النسبة العالية للجباية والتي تسببت في تضخّم القطاع الموازي والنزوع الى التهرب الضريبي
- الرقمنة المفقودة في الإدارة والتي تسببت في تعطيل الفاعلين الاقتصاديين وخسارة الكثير من الوقت على حساب الاقتصاد الوطني.
2) الاعتماد على الذات، شعار جيّد لكنه يتطلب رؤية أوضح
- فهو لا يعني عدم اللجوء الى الاقتراض الخارجي وتعويضه بالاقتراض الداخلي، فبعض المؤسسات الدولية وحتى صندوق النقد الدولي تقرض الدول بنسبة فائدة أقل بكثير من نسبة الفائدة في الداخل
- الاقتراض الخارجي يكون مفيدا للاقتصاد عندما يثمر مردودا، أي نسبة نمو اقتصادي، أرفع من تكلفته، أي نسبة الفائدة. وهذا يعني إذا وجّه الاقتراض الخارجي الى غايات إنتاجية وليس الى تمويل نفقات استهلاكية للدولة، فهو لا يمس من السيادة الوطنية.
- التعامل مع صندوق النقد الدولي لا يعني الخضوع الى شروطه ولا يعني المسّ من السيادة الوطنية. فالمسّ من السيادة الوطنية يكون من طرف الفريق التونسي المفاوض والذي يقبل بشروط الصندوق بدون مناقشتها أملا في الحصول على التمويل اللازم، فهو، عوضا أن يذهب الى الصندوق ببرنامج تونسي خالص يناقش به الصندوق، يركّز على المبلغ المالي وليس على جودة السياسات الاقتصادية.
- اللجوء المفرط الى الاقتراض الداخلي من طرف البنوك الوطنية يضعف هذه البنوك ويهدد صلابة النظام النقدي، فهذه البنوك تفضّل إقراض الدولة من دون مخاطر على إقراض القطاع الخاص بنسبة مخاطر قد تكون عالية بالنسبة لبعض القطاعات كالفلاحة، وبالتالي تحيد عن وظيفتها الأصلية وهي إقراض القطاع الخاص لدفع الاستثمار والنمو الاقتصادي.
- اللجوء الى الاقتراض المباشر من طرف البنك المركزي لا يعني الاعتماد على الذات عندما يوجّه هذا التمويل للنفقات الاستهلاكيىة للدولة ولن يكون مفيدا للاقتصاد إلا إذا وجّه الى غايات إنتاجية كتجديد أسطول الآلات والسكك الحديدية لإنتاج ونقل الفسفاط أو لتمويل اقتناء اللاقطات الفوتوضوئية من طرف العائلات والمصانع التونسية أو غيرها من المشاريع المنتجة. فقطاع الفسفاط يمكن الاعتماد عليه في سياسة الاعتماد على الذات والتوجه الى الطاقات المتجددة يساعد على تحقيق الأمن الطاقي ويسهم في التحكم في العجز الطاقي.
- الفلاحة، قطاع مهم في سياسة التعويل على الذات، إذ لا بد من الدعم المباشر للفلاح عوضا عن دعم المواد التي ينتجها الفلاح. فدعم الأعلاف والبذور مفيد جدا للاقتصاد فهو يمكّن الفلاح من السيطرة على التكلفة وبالتالي من تحقيق ربح يساعده على الاستمرار في النشاط وهذا يساهم في الرفع من الإنتاج وبالتالي من التحكّم في الأسعار. فالفلاح كان ضحية السياسة المرنة لسعر الصرف والتي أدت الى تراجع كبير في قيمة الدينار وبالتالي في ارتفاع تكلفة الأعلاف والبذور، وكان ضحية السياسة النقدية الحذرة والتي أدت الى نسبة فائدة مديرية عالية وبالتالي الى ارتفاع كلفة التمويل وكان كذلك ضحية سياسة تحديد أسعار ما ينتجه بدون تحديد أسعار ما يستعمله من مواد أولية ونصف مصنعة. وبالتالي عندما تريد الدولة تحديد أسعار المواد الفلاحية لا بد لها أن تنتهج نفس السياسة بالنسبة للمواد الأولية ونصف المصنعة المستعملة في الفلاحة وخاصة منها البذور والأعلاف وغيرها من المدخلات الأساسية.
- المستثمرون التونسيون، عماد مهم في تحقيق السيادة الوطنية والاعتماد على الذات، وبالتالي لا بد من تحسين مناخ الأعمال حتى يكون جالبا للاستثمار المحلي والأجنببي. وبالتالي لا بد من تخفيض كلفة تمويل الاستثمار أي نسبة الفائدة المديرية العالية والتي تسببت في فقدان قطاع حيوي مهم وهو قطاع البناء والأشغال العامة وبالتالي في الانكماش الاقتصادي الذي نعيشه اليوم.
- التونسيون المهاجرون الذين يشتغلون في الخارج، عنصر مهم في تحقيق السيادة الوطنية والاعتماد على الذات. لا بد من إجراءات مهمة تشجهم على فتح حسابات بالعملة الصعبة لدى البنوك التونسية، خاصة وأن نسبة الفائدة في تونس مغرية لهم مقارنة بنظيرتها في أوروبا وهذا يمكّن الاقتصاد التونسي من مبالغ مهمة بالعملة الصعبة يسهم في إنعاش خزينة البنك المركزي وبالتالي في تماسك الدينار التونسي والتحكم في التضخم المالي.
- السوق الموازية، هي جزء من الاقتصاد الوطني وعامل مهم لتقيق سياسة الاعتماد على الذات. فالمبالغ الضخمة من العملة الصعبة المتداولة في السوق السوداء وتوجيهها الى المسالك المنظمة مهم جدا لإنعاش خزينة البنك المركزي من العملة الصعبة، فهو يمكن البنوك التونسية من السيولة اللازمة التي يمكن الاستعانة بها لتمويل الاستثمار ودفع النمو الاقتصادي.