بل كان نتيجة لتراجع مهمّ على مستوى واردات المواد الغذائية وعلى مستوى واردات المواد الأولية ونصف المصنعة، وهو ما سيولّد المزيد من الانكماش الاقتصادي ويدفع الدولة، في إعدادها لميزانيتها لعام 2025، لمزيد الاقتراض الخارجي.
1) العجز التجاري للسداسي الأول يتحسن من سنة الى أخرى من 11.8 مليار دينار في سنة 2022 الى 8.7 مليار دينار في سنة 2023 الى 8 مليار دينار في سنة 2024، وهو نظريا مؤشر جيد بما أنه يعطي الأريحية للبنك المركزي على مستوى إدارة الموجودات من العملة الصعبة ويمكّنه من تسديد الديون الخارجية من دون حرمان الاقتصاد الوطني ممّا يلزمه من مواد أساسية ومواد أولية وتجهيزات ضرورية لعملية الإنتاج. ويكون هذا التراجع في العجز التجاري ذو فائدة على الاقتصاد الوطني عندما يكون ناتجا عن تطوّر مهم للصادرات أو على الأقل تراجع لواردات المواد الاستهلاكية.
2) لكن هذا التحسّن لم يكن نتيجة لتنامي الصادرات، حيث أن نسبة نمو هذه الأخيرة خلال السداسي الأول تتراجع من سنة الى أخرى (2.2% في سنة 2024 مقابل 10% في سنة 2023 وأكثر من ذلك بكثير في السنوات الماضية) بقدر ما هو نتيجة لسياسة التقشف على مستوى الواردات حيث استقرت في مستواها الضعيف لسنة 2023. وتراجعت بصورة ملحوظة على مستوى المواد الغذائية (-16.4%) والمواد الأولية ونصف المصنعة (-5.3%)
3) النقطة الإيجابية الأولى في هذا التراجع على مستوى العجز التجاري، تضاعف صادرات زيت الزيتون من 1.8 مليار دينار خلال السداسي الأول من السنة الفارطة الى 3.4 مليار دينار ممّا مكّن الاقتصاد الوطني من تحقيق فائض مهم في الميزان الغذائي يقدّر ب1.8 مليار دينار.
4) النقطة الإيجابية الثانية في تحسّن الميزان التجاري للسداسي الأول لهذه السنة، تسجيل فائض تجاري مع بلدين من المغرب العربي وهي ليبيا (1 مليار دينار) والمغرب (0.1 مليار دينار) وهو ما يستوجب تكثيف المبادلات التجارية مع هذين البلدين والعمل على استرجاع الحيوية التجارية لمعبر رأس جدير. لكن مقابل ذلك، فإن العجز التجاري يبقى مرتفعا للغاية مع دول البريكس وخاصة الصين (4 مليار دينار) وروسيا (3 مليار دينار) والهند (0,7 مليار دينار) والبرازيل (0.5 مليار دينار) ومصر (0.5 مليار دينار) وكذلك مع الجزائر (2 مليار دينار) وتركيا (1.4 مليار دينار) وأذربيدجان (1.1 مليار دينار) وأكرانيا (0.7 مليار دينار).
5) فإذا استثنينا المؤسسات المصدرة كليا، وهي في أغلبها شركات أجنبية، وتحدثنا فقط على المؤسسات التونسية (نظام عام)، فإن العجز التجاري يقفز من 8 مليار دينار الى 17 مليار دينار خلال السداسي الأول لهذه السنة. علاوة على ذلك، فإن نسبة التغطية بالنسبة للشركات التونسية (نظام عام) ضعيف جدا (37.8%) وهو ما يعني أن المؤسسات الاقتصادية التونسية تحتاج الى مبالغ هامة من العملة الصعبة حتى تتمكن من توفير ما يلزمها من مواد أولية ونصف مصنعة ومواد تجهيز ضرورية لعملية الإنتاج.
6) الخطر يكمن في تراجع صادرات الفسفاط ومشتقاته بأكثر من الثلث (-30.4%) وقطاع الملابس والنسيج والجلد ب9.2% وهو أمر غير مقبول بالمرة، فقطاع الفسفاط يمثّل الذراع المالي الأهم في سياسة الاعتماد على الذات التي تريد رئاسة الجمهورية انتهاجها. أما تراجع صادرات قطاع النسيج والملابس والجلد فهو يعود بالأساس الى الكلفة العالية التي أصبح يتحملها هذا القطاع بعد مراجعة الاتفاق التجاري مع تركيا نحو الترفيع في الأداءات الجمركية على الواردات التي تأتينا منها وهي بالأساس مواد أولية ونصف مصنعة يوردها هذا القطاع (القطنيات وغيرها من المواد الأولية)
7) النقطة التي أعتبرها مفصلية وخطيرة، هي هذا الإصرار من طرف الحكومة على سياسة التقشف على واردات القطاع الخاص من مواد أولية ونصف مصنعة ضرورية لعملية الإنتاج حيث واصلت هذه الأخيرة تراجعها ب-5.3% بعد تراجع ب-4.2% السنة الفارطة وهو ما يهدد النمو الاقتصادي بمزيد الإنكماش الاقتصادي والموارد الجبائية للدولة بمزيد التراجع وهو ما يعني المزيد من التداين الخارجي للسنة المقبلة. هذه السياسة التقشفية على مستوى واردات المواد الأولية ونصف المصنعة أفقدتنا في السنة الماضية حوالي 2 مليار دينار من الموارد الجبائية عندما نزل النمو الاقتصادي من 1.8% حسب تقديرات ميزانية الدولة لسنة 2023 الى 0.4 ويمكن أن تكون التداعيات على الاقتصاد الوطني وعلى ميزانية الدولة أكثر قساوة هذه السنة إذا واصلت الحكومة في نفس النهج خاصة وأننا سجلنا في الثلاثي الأول من هذه السنة إنذارا على مستوى النمو الاقتصادي الذي انكمش ب0.2% نتيجة لهذا الإصرار على اتباع سياسة التقشف على واردات المواد الأولية ونصف المصنعة.
8) الأمر المخيف هو تنامي العجز الطاقي الى حدود لا يمكن للاقتصاد التونسي تحمله. فعلى 8 مليار دينار كعجز تجاري لدينا 5.8 عجز طاقي وهو ما يتطلب التعاون بين الحكومة والبنك المركزي لوضع حد لهذا النزيف. فبإمكان البنك المركزي انتهاج سياسة طاقية تشجع على الطاقات المتجددة وذلك بالإقراض المباشر للشركة التونسية للكهرباء والغاز بدون فائض حتى تتمكّن العائلات التونسية والمؤسسات الاقتصادية من التزود باللاقطات الشمسية (Panneau Photovoltaiques). كما على الدولة أن تخفّض في الأداءات الجمركية والأداء على القيمة المضافة وتحذف كل التراخيص والعراقيل الإدارية حتى تنخرط كل المؤسسات الاقتصادية في هذا المشروع الوطني الهام إذ لا يعقل أن توظف الدولة أداءات جمركية ب10% على اللاقطات الشمسة وأداءا على القيمة المضافة بتعلة الحماية الجمركية لقطاع ذو قيمة مضافة ضعيفة. فالإقراض المباشر من طرف البنك المركزي للشركة التونسية للكهرباء والغاز بدون فائدة يجنب العائلات التونسية والمؤسسات الاقتصادية دفع فائدة عالية للبنوك التونسية المموّلة وتخفيض الأداءات على اللاقطات الشمسية ييسّر اقتنائها ويسهم في تخفيض كلفتها وهو ما ينعكس إيجابا على المقدرة الشرائية للمواطن التونسي الذي يتحمّل فواتير كهرباء عالية. كما أن التعاون بين البنك المركزي والحكومة في هذا الإطار سيمكن المؤسسات الاقتصادية من الضغط على كلفتها وبالتالي من التخفيض في مستوى أسعار كل المواد والخدمات التي تنتجها.