بسبب ضغطه ورهاناته ورتابته في نسق أحيانا يتلوّن باللّون ذاته. لذلك من الجيّد أن نلوّن هذه المناسبة السّنويّة بألوان تحقّق لنا "الإمتاع والمؤانسة" من ناحية وتمنح عقولنا فرصة لطرح الأسئلة دون إغفال الجانب الجمالي الذّي نحب من ناحية أخرى طبعا.
ومنه يمكننا أن نؤنس أيامنا مهتمّين بقراءة كتب أو مشاهدة أفلام، ولعلّنا نقترح في هذا المقام قراءة في عمل سينمائيّ من الأعمال السّينمائيّة التّونسيّة التّي من اليسير علينا اليوم أن نشاهدها على المنصّات الرّقميّة المتوفّرة، ويتمثّل هذا العمل في فيلم قصير ''رحلة"للمخرج التّونسي جميل النجّار (2022).
يرجع اختيارنا لهذا الشّريط إلى كونه رحلة تعود بينا إلى تاريخ صيفي 09 أوت 2013 لكن بطريقة طريفة جدّا فيها كان الجمع بين توليفة من الثّنائيّات: الهزل والجدّ، الظّاهر والباطن، لغة اللّسان ولغة الصوّرة، التّونسي والأجنبي، الحقيقة والتّزييف....إذ يجعلنا نضحك ونحن نواجه بعض ملامح واقعنا المشوّه المريض، لكن بطريقة تنسجم مع خصائص الكوميديا السّوداء.
كانت الفاتحة بكلاسيكيّات الإذاعة صباحا: أغنية فيروزيّة "سيّدة الصّباح تغنّي آخر أيّام الصّيفيّة" ، تحذير من حرارة استثنائيّة خاصّة في الجنوب التّونسيّ. ثمّ تظهر سيّارة تكاد تختفي بسبب الأشياء المستعملة التّي جُلبت من فرنسا هدايا للأهل في جرجيس، وفيها أربع شخصيّات رئيسيّة هم: حبيب وابنه بلال والزّوجة الفرنسيّة برنادات وابنتها كريستين. معهم ستكون الرّحلة في الجغرافيا التّونسية التّي أعجبت برنادات لأنّها مختلفة عن الجغرافيا الفرنسيّة. لكن هي رحلة في دقائق وتفاصيل من ذاكرتنا الجماعيّة التّونسية الحديثة "ما عملناش روتار، خمسة سوايع بركة"، وهو أمر صار من الخبز اليوميّ فالتّأخّر والتّأخير من العادات التّي ألفتنا وألفناها للأسف والالتزام بالوقت والانضباط به أقرب إلى النّشاز والغرابة في السّياق العام ربّما.
ونحن نرافق هذه العائلة المزدوجة في رحلتها إلى مدينة جرجيس من أجل حضور حفل زواج منية أخت حبيب، نلاحظ أنّ حبيب أمام تحد يهدف إلى الحفاظ على صورة وطنه أمام برنادات وهي في زيارتها الأولى إليه، لذلك أغلب المواقف التّي اعترضته في الطّريق حاول أن يعرضها بطريقة تبتعد كلّ البعد عن الحقيقة. وهنا توفّر هذا الفيلم على مواطن الفكاهة. "علي" ذلك الرّجل الذّي كان يهاتفه في كلّ مرّة طالبا شيئا ما، تسبّب في بعض المشاكل عكّرت صفو السّفر. أوّلها: طلبه تلبية رغبة العروس في أكل "مقروض القيروان"، فوقع تغيير مسار الرّحلة التّي توقّفت لأنّ اعتصام عدد سكّان المنطقة المتحتجّين على سوء الأحوال من عدم توفّر الماء والبطالة وغير ذلك، أسّس حاجزا بشريّا ،لم يستطع حبيب تجاوزه إلاّ بعد منح المحتجّين كلّ الأشياء التّافهة البسيطة المستعملة التّي كوّن بها طابقا فوق السيّارة. لكن بلال الابن ساعده على تجميل الموقف ليقنعا برنادات بكون المسألة تتمثّل في فنانين يجمعون تبرّعات من أجل المحتاجين وهو ما استحسنته.
واصلوا في رحلة المشقّة والعرق و"علي " لا يضجر من الاتّصال والسّؤال وهنا كان المشكل الثّاني، انتباه الشّرطة لهذه المخالفة المروريّة فكانت حجّة حبيب أنّه كان يخاطب والدته التّي اشتاق إليها عر الهاتف. وقد توصّل إلى اتّفاق مع رجل الشّرطة غير أنّ ما أفسد الودّ هو جملة الزّوجة، وهي تشكر الشّرطي، توسّلت كلمة "طرطور" التّي قرأتها في الجريدة وفسّرها حبيب لها بكونها المرادف لكلمة "سيّد" ، فغضب الشّرطي وأصرّ على العقوبة أوالحلّ البديل:وهو أخذ الهاتف مقابل ضمان سلامة السيّارة والهرب من العقوبة، وكان له ذلك فعلا.
تستمرّ الرّحلة وتستمرّ المواقف، فتتعطّل السيّارة بسبب ثقب في الإطار ولا يوجد الإطار الاحتياطي لأنّ حبيب استغنى عنه ليجد مساحة للهدايا، وحينها نراه يمجّد كرم التّونسيّين وخدمتهم لبعضهم البعض لكن لم تجد هذه العائلة أيّ يد مساعدة لمدّة زمانيّة مهمّة حتّى ظهر رامي بشاحنته وعنزته ونظرته الوقحة للزّوجة التّي انتقد جمالها "ما لقيت كان الخِشْبة هذي في فرنسا" وسرعان ما يشمئز من مدح حبيب لحكم بن علي فيطرده هو وعائلته والدرّاجات والحقائب من شاحنته. ليكمل أفراد هذه الأسرة الرّحلة تعبا ووهنا وعرقا، فحاولوا أخذ نصيب من الرّاحة لكن الصّدمة كانت "موتوا بغيظكم" الجملة التّي تكرّرت مرّات ومرّات صادرة عن بنات يرتدين ما يسمّى بــ ''اللّباس الشّرعي"تحت وصاية ملتحين. ليغلق الشّريط بأغنية"ناري على جرجيس وبناويته".
هذا الفيلم على قصر مساحته الزّمنيّة إلاّ أنّه شكّل مشهدا مضحكا نقديّا بسبب المفارقة بين الخطاب والحقيقة، في قدرة على الكشف: الالتزام، عدم احترام الوقت، الفوضى، الهجرة غير الشّرعيّة، التلوّث، الكذب، المصالح، التطرّف، الاعتقاد في إمكانيّة وجود وطن لا يشبه وطننا، المهاجر بين الغربة والانتماء، حريّة اللّباس، التّسامح، الأخبار والتّأثير.
"رحلة" هو منتوج فنيّ كان فيه تسريد لحكاية تونسيّ هاجر إلى فرنسا مع طفله ولعلّه قد تزوّج ببرنادات الفرنسيّة التّي تكبره سنّا لتسوية وضعيّته القانونيّة في بلد الغربة، مثلما يفعل أبناء بلده، وعودته إلى تونس كانت في صورة تشبه الصور التّي نراها في كلّ موسم صيفي ،مثلما يفعل أشباهه من أبناء بلده: صورة تدلّ على أشخاص يريدون تأكيد فكرة النّعيم الزّائفة لكلّ الذّين قاوموا وبقوا في هذا البلد رغم الوجع حتّى وإن كانت الهدايا قد بلغها الصّدأ أحيانا المهم هو التّكديس والتّكديس لا غير للادّعاء زورا.