مهارة الطغيان تكمن في القيام بنفس الشيء بواسطة القضاة" Camille Desmoulins (1760-1794)
سنة 1898، كتب الروائي الفرنسي الكبير، ايميل زولا، رسالته الشهيرة "إني اتهم J’accuse"، منتقدا عسف القضاء الفرنسي الذي حاكم النقيب الفريد دريفوس بتهمة الخيانة ظلما، قال زولا في رسالته الى رئيس الجمهورية الفرنسية عن القضاة الذين ادانوا شخصا بريئا: " اما الأشخاص الذين اتهمهم، فليس لي علاقة بهم ولم ارهم في حياتي، وليس لي تجاههم أي حقد أو ضغينة، وليسوا بالنسبة لي سوى كيانات مفسدة للمجتمع ... كل ما أقوم به هو وسيلة ثورية لأحكام العدالة وتفجير الحقيقة... "
وقال متحديا "فلتقع محاكمتي اذن وليقع التحقيق معي في وضح النهار ...انا في الانتظار"
حوكم زولا ونفي في لندن، لكن كان للرسالة الوقع الكبير في الرأي العام الذي تحرّك عبر مئات الشهادات، فأعيدت محاكمة دريفوس وبُرئ.
"قراري لا نصوص القانون"
بعد تلك الرسالة بحوالي اربعين سنة، غضب هتلر، زعيم النازية، لما برأت احدى المحاكم الالمانية القس مارتن نيوملر ، كاتب المقولة الشهيرة : "عندما جاءوا للشيوعيين لم أبال لأنني لست شيوعياً، وعندما اضطهدوا اليهود لم أبال لأنني لست يهودياً، ثم عندما اضطهدوا النقابات العمالية لم أبال لأني لم أكن نقابيا ..بعدها عندما اضطهدوا الكاثوليك لم أبال لأني بروتستنتي ..ولكن عندما أضطهدوني انا.. لم يبق أحد حينها ليدافع عني" وقال هتلر، مهددا القضاء: " هذه اخر مرة تعلن فيها محكمة المانية براءة شخص قد قررت انا انه مذنب."
من خلال المثالين، نلاحظ ان الاستبداد و الظلم وانتهاك القانون ليست خصائص عربية ولا إسلامية وان القول بان الاستبداد له اصول شرقية مثلما اعتقد ارسطو، او ان الحكومة المستبدة تصلح للعالم الاسلامي بينما الحكومات المعتدلة تصلح للعالم المسيحي مثلما ادعى مونتسكيو ، هي احكام غير دقيقة ، فالمستبد ، اكان شرقيا ام غربيا ، يرى مثل هتلر ، ان القانون هو ما يقوله ويأمر به وانه باحتكاره لكل السلطات الوحيد القادر على سنّ القوانين وتعديلها وتغييرها، حسب مصلحته ومزاجه ، فهو على رأي احمد مطر ، من يملك القانون ومن يملك العزف عليه ...وحده.
"ابدأ أولا بالقضاء"
فالطغاة الذين لا يعترفون بسلطة قانون مستقلة ولا بجهاز قضاء محايد "يسعون، كما قال توماس هوبز، الى ان تكون سلطتهم حاضرة في كل مكان ... حيث تتملكهم دائما رغبة جامحة في ان تكون لهم السلطة تلو الأخرى ... ولا تهدأ تلك الرغبة الا بالموت." غايتهم السيطرة على المجتمع بكل الطرق، لذلك يستهينون بالعدالة ويرفضون القواعد القانونية المتعارف عليها دوليا وحتى محليا، قواعد تستند الى سلامة إجراءات التقاضي واعمال قرينة البراءة، ويعمل الاستبداد منذ نشأته على اخضاع القضاء عبر تخويف أولئك الذين لا يمتثلون لإرادة السلطة... فالخوف يجب ان يزرع في ضمير القاضي أولا حتى يسهل تطويعه.
"من عادة الديكتاتوريات، وفق القاضي كريستوس ستارتزكيس (Chrístos Sartzetákis) الذي واجه الحكم العسكري في اليونان بشجاعة نادرة، ان تبدأ -قبل كل أي شيء اخر- بتصفية حساباتها مع القضاة" لان القاضي هو حارس الحق والشرعية ومانع للظلم وعنوان دولة القانون، لا سلطان عليه الا ضميره ، الذي هو "صوت الله في الانسان" كما يقول فيكتور هوغو ، ومرجعياته القانونية .
وان كانت القوى الصلبة هي أداة العنف المباشر لدى الأنظمة الاستبدادية، فان القضاء هو الغطاء التشريعي، الذي يبرر التنكيل بمن تحدثه نفسه برفع الصوت في وجه الظلم او التشكيك في قرارات الحاكم بأمره، وتقدم التبريرات "القانونية" عندما تشتغل الة القمع، فتكون مجرد مواقف مسرحية سمجة، لا يقبلها العقل االجمعي مهما كانت درجة سذاجته، ولكن هل تهم مصداقية السرد التبريري؟ ليست المصداقية بذات اهمية ولا يهم تشكيك الرأي العام في الرواية الرسمية، فالمهم هو نشر الخوف عبر جعل القضاء سيف ديمو قليس مسلطا بشكل دائم على رقاب الجميع.
"لا يهم ان لا تعرف تهمتك"
في رواية "المحاكمة " للكاتب التشيكي فرانز كافكا ، يستيقظ جوزيف ك. ليجد نفسه معتقلا ومتهما في قضية لا يعلم عنها شيئا ، فيحاول اثبات براءته، لكنه يفشل امام متاهات عالم المحاكم المعقد والغريب ، ثم يصدر حكما بإعدامه ، وان كانت الرواية تثير عبثية القضاء وفساده المرعب واستهتاره بحياة الافراد ، الا انها تحيل الى بدايات التسلط والقمع الذي سيتمكن في بعض بلدان أوروبا الغربية ويتسبب في احدى اكبر الكوارث الانسانية.
استبطان الخوف والذنب:
والخطر ليس فقط في افتعال القضايا ولا في عبثية الحياة في ظل سلطة قمعية، ولا حتى في استبطان الخوف، الذي يتحول تدريجيا من انفعال فردي الى ظاهرة مجتمعية عامة، بل في الارتياب الذي يصيب الأشخاص الى حدّ الشك الذاتي ولبس التهمة، حيث يبدأ جوزيف ك في مراجعة تاريخه وذكرياته علّه يجد ذنبا اقترفه او جريمة ارتكبها تبرر محاكمته.
وهكذا يتغذى الطغيان من الخوف الذي "هو روح الاستبداد "كما يقول عبد الرحمان الكواكبي، لان الخوف اذا "ما استبد بالنفوس يجعل قابليتها للاستسلام مؤكدة" ويظل القضاء لحاف المستبد وغطاؤه "القانوني " واداته المرعبة للسيطرة لفرض الصمت وقبول الامر الواقع الى ان يثقب جدار الرعب هذا اديب ملتزم مثل ايميل زولا او قاض فاضل مثل الفقيد مختار اليحياوي، الذي حرر رسالة مرجعية في تاريخ القضاء دفاعا عن الاستقلالية والقانون ذات يوم من أيام الصيف الحارة سنة 2001، حين كان الصمت المرعب يخيّم على تونس.
ذاك هو بداية الخلاص، يقول نجيب محفوظ: "سألت الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب عندما يؤمن أهلها بان عاقبة الجبن اوخم من عاقبة السلامة." كذلك الامر بالنسبة للقضاء، حينما يدرك القاضي ان عاقبة طاعته للطغاة أسوأ من عاقبة حفاظه على مركزه وامتيازاته ...عندها يصحو ضميره وينصفه التاريخ، فالتاريخ منصف لأنه لا يزال يذكر زولا وشجاعته في الاصداح بالحق بعد أكثر من قرن من رسالته، وسيذكر القاضي مختار اليحياوي لعقود اخرى، لكنه رمى بمن حكموا ظلما على النقيب دريفوس وغيرهم في سلة النسيان، وكذلك فعل برُعاتهم.
الطاغية: "انا القانون والقانون فوق الجميع "
- بقلم مسعود الرمضاني
- 15:15 01/07/2024
- 1093 عدد المشاهدات
"الطغاة الاغبياء فقط هم الذين يستعملون قوة السلاح،