الاقتصاديات العربية: كيف نتحاشى مخاطر الصمود (résilience ) والاستقرار الاقتصادي ؟ ( 1)

كيف نخرج من مخاطر ومن مأزق الصمود (résilience ) في الاقتصاديات العربية ؟

يطرح هذا التساؤل نفسه بقوة عندما نتناول بالتحليل الوضع الاقتصادي العربي اثر جائحة الكوفيد 19.وقد تتميزت هذه الاوضاع في السنوات الاخيرة بتصاعد الصراعات والحروب في المنطقة .وقد اتت الحرب المدمرة التي تشنها الة الحرب الاسرائيلية لتضيف حربا جديدة الى قائمة الصراعات التي تنهش البلدان العربية منذ ثورات الربيع العربي، .اذ الى جانب الحروب الداخلية المدمرة في اليمن وسوريا وليبيا جاءت الحرب في السودان لتساهم في تأجيج الاوضاع السياسية وفي هشاشة الوضع الاقتصادي في المنطقة العربية .وقد ساهمت هذه الحروب والصراعات في جعل المنطقة العربية الجهة الاكثر تأثرا في العالم جراء الانعكاسات السلبية لتداخل العوامل الجيوسياسية مع الاقتصاد.

وقد ساهمت هذه الصراعات والحروب وعدم الاستقرار السياسي في انخفاض مستويات النمو في اغلب البلدان العربية والارتفاع المخيف لمستويات التداين بصفة خاصة في البلدان المتوسطة الدخل وغير المصدرة للبترول .

هذه التطورات الاقتصادية الكبرى التي تشهدها المنطقة العربية منذ الخروج الحذر من جائحة الكوفيد 19 تجعلنا نقترح فرضية فخ الصمود (trappe à la résilience) او مصيدة الاستقرار الاقتصادي لتحديد وقراءة الوضع الاقتصادي الذي تمر به .وفي هذا الاطار فإن السؤال المهم الذي يطرح نفسه بكل حدة امام الحكومات والسياسات العمومية والمؤسسات الدولية والخبراء يهم تحديد السياسات والاختيارات الكبرى للخروج من هذا الفخ ودفع النمو مع المحافظة على التوازنات الاقتصادية الكبرى .

في مفهوم فخ التوازنات والصمود الاقتصادي

عرف استعمال مفهوم الصلابة والصمود( résilience) تطورا كبيرا في الخطاب الاقتصادي وفي النقاش العام في السنوات الاخيرة .وقد شكل هذا المفهوم الاطار النظري العام الذي تستعمله المؤسسات الدولية وبصفة خاصة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لقراءة وتحليل الاوضاع الاقتصادية في الكثير من البلدان لفهم التطورات الاقتصادية الدولية . ويعود الاستعمال السريع لهذا المفهوم الى تسارع الصدمات التي يمر الاقتصاد العالمي والعديد من البلدان والتي لها تأثير كبير على هشاشة النمو. لتصنيف المخاوف والغموض والارتياب في الاوضاع العالمية عرف العالم في السنوات الاخيرة الكثير من الصدمات ومن ضمنها الازمة المالية الكبرى لسنتي 2008 و2009، مع تسارع الانعكاسات السلبية للتغيير المناخي وجائحة الكوفيد 19 وجملة الصراعات الجيوسياسية والحروب مثل الحرب في اوكرانيا والعدوان على غزة. وقد كان لهذه الصدمات تأثير كبير على التوازنات الاقتصادية الكبرى مما ساهم في التراجع الكبير للاستقرار السياسي والاقتصادي العالمي.

الى جانب التداخل الكبير للعوامل الجيوسياسية مع الوضع الاقتصادي العالمي لابد ان نشير كذلك الى العوامل الاقتصادية، وبصفة خاصة عودة التضخم بفعل ارتفاع الاسعار العالمية للمواد الاولية من بترول وغاز وارتفاع أسعار المواد الغذائية بفعل الحرب في اوكرانيا . وكانت لهذا التطور انعكاسات كبيرة على السياسات العمومية وبصفة خاصة السياسات النقدية. فقد عرفت هذه السياسات قطعا مع المنحى التوسعي الذي ميزها منذ عقد من الزمن ودخلت في مرحلة جديدة من طرف البنوك المركزية في اغلب بلدان العالم شعارها التشدد من خلال الترفيع في نسب الفائدة من اجل محاربة التضخم. وقد كان لهذا التغيير الجذري في السياسات النقدية تأثير كبير على النمو في العالم الذي تراجع في اغلب البلدان. وفي هذا الاطار العالمي الجديد المليء بالتحديات الجيوسياسية والاقتصادية ظهر مفهوم الصمود كإطار فكري وسياسي جديد لقراءة الوضع الاقتصادي العالمي ورصد تطوراته وتحولاته المستقبلية . وقد حاولت المؤسسات الدولية وكبار الاقتصاديين في العالم من خلال هذا المفهوم الجديد قراءة مدى قدرة الاقتصاد على التعاطي لمقاومة هذه الصدمات (chocs) الكبرى وإدارة انعكاساتها السلبية على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العالم .

وقد قدمت عديد الدراسات محاولات لتحديد محتوى هذا المفهوم الجديد وترجمته على مستوى السياسيات العمومية . ورغم غياب فهم جامع لهذا المفهوم، عرف الخطاب الاقتصادي اجماعا على تحديد الصمود ومدى قدرة السياسات العمومية على الحد من المخاطر والانعكاسات السلبية للصدمات الاقتصادية. وتكمن قدرة البلدان على الصمود امام الوضع الاقتصادي المتقلب في تفادي الانهيار وبصفة خاصة التراجع الكبير للنمو وحماية التوازنات المالية للدول وتفادي تصاعد البطالة والتهميش الاجتماعي . وقد حاولنا المساهمة في هذا النقاش العام من خلال اقتراح تحديد معين لمفهوم الصمود والذي يشير الى قدرة الدول من خلال سياساتها العمومية على مواجهة الصدمات الداخلية والخارجية وتجاوز الاضطراب والفوضى اللذين تحدثهما هذه الاوضاع الاقتصادية الجديدة والمخيفة .فالصمود يجب ان يسمح للبلدان بالمحافظة على مستوى معين ومحترم من النمو والرفاه الاجتماعي . وقد اشرنا الى ان سياسات الصمود الاقتصادي يجب ان تأخذ بعين الاعتبار جانبين مهمين. اما الجانب الاول فهو ثابت (statique) ويهم العمل على حماية التوازنات الكبرى للدول لتفادي مزيد من الانحدار والانزلاق .اما الجانب الثاني فهو ديناميكي ويعود الى قدرة الدول والاقتصاد على العودة الى مسار النمو والتطور .

وفي رأيي فإن تزامن هذين المسارين في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي ودفع النمو مهم وأساسي.فالصمود لا يقتصر على مقاومة الانحدار بل يشمل كذلك القدرة على الانتعاش.وقد اقترحنا في هذا النقاش مفهوم ضخ الصمود او مصيدة الاستقرار من خلال الفعل بين جانبي تثبيت التوازنات الكبرى من جهة وعودة النمو من جهة ثانية. وفي هذا الفخ يهيمن جانب الاستقرار على النمو والاستثمار. وهذا الوضع الجديد في التطورات الاقتصادية الاخيرة نتيجة للسياسات العمومية التي تضع نصب اعينها في ظل تصاعد المخاطر هدف الانقاذ الآني والمحافظة على التوازنات الكبرى وتناسي الديناميكية الاقتصادية على المديين المتوسط والطويل.

وفي رأيي فإن هذه الوضعية وفخ الصمود قد انسحبا على اغلب الاقتصاديات العربية منذ جائحة الكوفيد 19.

يتبع

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115