غـــزة وملامح العالــــم القــــادم

لسائل أن يسأل اليوم، ما أسباب هذه العولمة غير المسبوقة للحرب المجنونة

التي يقودها الجيش الاسرائيلي على غزة.فقد شهد العالم في العقود الاخيرة العديد من الصراعات والحروب المدمرة في عديد البلدان والأصقاع لكنها لم تلق هذا الاهتمام والمتابعة والتعبئة التي لقيتها الحرب على غزة. فقد عاش العالم خلال الاشهر الاخيرة على وقع هذه الحرب التي اصبحت تشكل احدى اولى اهتمامات الدول والمنظمات الدولية وحركات المجتمع المدني في كل بلدان العالم .

ساهمت الحرب الجنونية على عزة والعدد الكبير للشهداء من المدنيين وخاصة منم النساء والأطفال بطبيعة الحال في عولمة هذا الشعور بالعجز والخزي امام هذا الدمار. الى جانب هذه النتائج الانسانية الخطيرة وغير المسبوقة، جاءت هذه الحرب في لحظة تاريخية فارقة لتعبر وتجسد عما يعتمل في عالمنا من صراعات وتناقضات في خريف الاطار الكوني لعلاقة الانا بالآخر منذ قرنين من الزمن في عالم جديد يحاول البروز وتشكيل التوافق التاريخي الجديد على رأي غرامشي.

ورغم انه من السابق لأوانه الحديث عن الخصائص الكبرى لهذا العالم الآتي الا انه يمكننا الوقوف على ارهاصته الكبرى التي بدأت تعتمل امامنا في الحرب على غزة . وسنتوقف في هذا المقال على جانب من هذه الارهاصات في عديد المستويات منها الفلسفي والكوني والجيوستراتيجي والسياسي والأخلاقي.

• نهاية مركزية الكوني والبحث عن كونية مشتركة

عرفت المنظومة الكونية لحقوق الانسان والديمقراطية نقدا كبيرا ومهما في هذه الحرب التي فقدت عند الكثيرين من شعوب الجنوب معناها . فقد فضح انحياز الغرب لآلة الحرب المدمرة مركزية المنظومة الكونية لحقوق الانسان التي كان يقع اللجوء اليها كلما كانت مصالح الغرب في الميزان والتي كان يتركها جانبا عند الحديث عن الاخر. ففي الوقت الذي ينادي فيه بهذه المبادئ والقيم بالحرية والمساواة لا يرى مانعا عمل الالة الحربية الغربية والكولونيالية والهيمنة التي صاحبت التغلغل الاستعماري في المستعمرات منذ منتصف القرن التاسع عشر.

رغم النقد الذي تم توجيهه لهذه السردية الكونية والتي شكلت اساس النظام الديمقراطي الا انها واصلت هيمنتها على المجال الفكري للتجارب التاريخية الانسانية خاصة بعد سقوط المعسكر السوفياتي وانهيار الفكر الشيوعي والذي شكل بديلا لهذه السردية لفترة طويلة.

وقد شكلت الحرب على غزة اليوم ضربة قاصمة لهذه المركزية الغربية وفتحت الباب لإعادة بناء مشترك جمعي جديد لا يمكن ان يقف عند التأكيد على مبدإ الاختلاف من داخل منظومة الحداثة كما اشار الى ذلك الصديق والفيلسوف الموريتاني السيد ولد اباه . بل ان عملية البناء هذه تتطلب القطع مع هذه المركزية الغربية والاكتفاء بالرفض بالعودة للخطاب التقليدي او الانعزال وبناء مشروع فكري جديد ينخرط في كونية مشتركة تجمع بين شعوب وذوات متعادلة كما اشار الى ذلك الصديق والمفكر الكامروني اشيل مبامبي .

• نهاية اللحظة الكولونيالية في العالم

تمكنت اغلب شعوب العالم الثالث والحركات الوطنية من الانعتاق والوصول الى استقلالها في نهاية الخمسينات وبداية ستينات القرن الماضي. ثم جاءت الموجة الثانية من الاستقلال في منتصف السبعينات اثر سقوط الديكتاتورية في البرتغال وحصول مستعمراتها في افريقيا على استقلالها.ولم تبق إلا بعض البلدان القليلة رازحة تحت الاستعمار وأهمها جنوب افريقيا وفلسطين.وحصلت جنوب افريقيا على استقلالها وسقط النظام العنصري مع خروج مانديلا ورفاقه من سجن الابارتايد وظلت فلسطين الحالة الكولونيالية الاهم في العالم. ورغم المفاوضات والاتفاقات الدولية في مدريد وأوسلو الا ان الشعب الفلسطيني لم يتحصل على حقوقه الوطنية .

وقد جاءت الحرب في غزة لتطرح من جديد المسألة الكولونيالية . ورغم جنون الآلة العسكرية اصبح الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب وبناء دولته على مرمى حجر. ورغم الفيتو الامريكي في مجلس الامن صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بإجماع كبير في 18 ماي 2024 لفائدة الاعتراف بالدولة الفلسطينية .ثم بدأت عديد الدول الاوروبية مثل اسبانيا وايرلندا والنرويج في اتخاذ نفس القرار يوم 22 ماي. وستتبع عديد الدول الاخرى هذا التمشي .

ان الاعتراف بدولة فلسطين يمثل تطورا كبيرا في المجال الدولي . ويتجاوز هذا القرار فلسطين ليشكل رفض الكولونيالية احد ارهاصات العالم الجديد.

• ثورة الجنوب والبحث عن نظام عالمي جديد

انطلقت ثورة بلدان الجنوب على العالم الموروث من الحرب العالمية الثانية منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.وشكلت الحرب على غزة مرحلة جديدة من تنامي رفض بلدان الجنوب لعلاقات الهيمنة وعدم المساواة بين بلدان الشمال والجنوب في العالم . وقد اعطت هذه الحرب كثافة وزخما جديدين لثورة الجنوب ومطالب اصلاح النظام العالمي . وستشكل هذه المطالب لبلدان الجنوب رغم اختلافاتها احدى ارهاصات العالم القادم.

• القانون الدولي وحماية الشعوب من الاستبداد

شكلت دعوى جنوب افريقيا امام محكمة العدل الدولية لحظة فاصلة في مجال تطبيق القانون الدولي ووضع حد لتهرب اسرائيل من تبعاته .وقد تم تدعيم هذا القرار يوم 20 ماي 2024 بإصدار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف ضد كل من بنيامين نتنياهو ويواف غالنت . ورغم النقد الذي وجهته المقاومة لهذا القرار الا انه شكل مرحلة جديدة في فرض احترام القانون الدولي ومحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب والإبادة .

وقد بدا هذا المسار بمحاولات تتبع رئيس الشيلي السابق اوقستو بينوتشي ورئيس الوزراء الاسرائيلي شارون . وقد تواصل هذا المسار من خلال هذين القرارين لمحكمتي العدل والجنائية الدولية ليجعل مكن احترام حقوق الشعوب احد مبادئ العالم الجديد الذي يعتمل امامنا .

• ثورة الشباب وعودة السياسة

كانت اغلب بلدان العالم تعيش فترة ازمة لمشروعها السياسي الديمقراطي اثر ثورات الربيع العربي وثورات الشباب . وقد فتحت هذه الازمات المجال لتنامي القوى اليمينية والشعبوية في اغلب بلدان العالم .

كما كانت الحرب في غزة وراء ثورة وهبة شبابية اعادت للسياسة والنضال وهجه . ولئن أخذت الثورات التي عرفتها اهم واكبر الجامعات في العالم وخاصة في امريكا وأوروبا الوقت لتتشكل في مشاريع سياسية الا انها اعادت للالتزام السياسي وللنضال المدني نبله وأخلاقياته . وستشكل هذه الثورات الشبابية دون شك احد اسس العالم الجديد في المستقبل .

وقد تجاوز الاهتمام والدعم لغزة الحدود الضيقة للثورة الفلسطينية ليصبح قضية تتشكل فيها وتتفاعل تناقضات العالم وتفاعلاته . وبدأت تظهر في خضم هذه الحرب ارهاصات العالم الجديد من خلال هذه الصراعات والذي تطمح شعوب العالم الى بنائه من خلال احياء المشروع الديمقراطي على اسس جديدة وبناء عالم متوازن

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115