قراءتي لأرقام المعهد الوطني للإحصاء للثلاثي الأول لسنة 2024 من مؤشرات العجز التجاري الى معدلات النمو الاقتصادي والبطالة

رضا الشكندالي

الإصرار على سياسة تقشفية بخصوص واردات المواد الأولية ونصف المصنعة أدت الى تواصل الانكماش الاقتصادي

وهو ما يهدد توازنات المالية العمومية. لكن الخطر الحقيقي يكمن في تفاقم العجز الطاقي الذي وصل الى مستويات عالية تستدعي إعادة النظر في السياسة الطاقية لتونس

1) الإيجابي في تراجع العجز التجاري للأربع أشهر الأولى لهذا العام. أولا تطور مهم لصادرات زيت الزيتون ب110% وثانيا تسجيل فائض تجاري مع بلدين من المغرب العربي وهي ليبيا (0.5 مليار دينار) والمغرب (0.1 مليار دينار) وهو ما يستوجب تكثيف المبادلات التجارية مع هذين البلدين هذا الفائض يعطي أريحية للبنك المركزي على مستوى إدارة الموجودات من العملة الصعبة، حيث يكون هناك سهولة على مستوى تسديد الديون الخارجية.
2) لكن تراجع العجز التجاري من -6.2 مليار دينار خلال الأربع أشهر الأولى لسنة 2023 الى -4.8 مليار دينار خلال الأربع أشهر الأولى لسنة 2024 لم يكن نتيجة تطور للصادرات والتي سجلت تحسنا طفيفا ب4.8% وهو أضعف مما تحقق في نفس الفترة من السنة الماضية (7%)، بل كان نتيجة لتراجع الواردات بصورة واضحة : -1.8% مقابل ارتفاعها ب 7% خلال نفس الفترة لسنة 2023 خاصة واردات المواد الأولية ونصف المصنعة والتي تراجعت وارداتها ب -9% وهي التي تمثّل 33% من جملة الواردات.
3) هذه السياسة في إدارة التجارة الخارجية هي نفس السياسة المتوخاة خلال السنة الماضية والتي أثمرت تراجعا ملحوظا في نسبة النمو الاقتصادي الى 0.4% فقط وأفقدت الدولة ملياري دينار من الموارد الجبائية. الاقتصاد التونسي اقتصاد تبعي مرتبط بتوريد الطاقة والمواد الأولية ونصف المصنعة ولا يمكن للإنتاج أن يتطور بدون توريد هذه المواد المهمة. المواصلة في التقشف على مستوى واردات هذه المواد ستضعف النمو الاقتصادي وستزيد في معدلات البطالة وفي أتعاب المالية العمومية والتي ستضطر الى مزيد التداين الداخلي والخارجي لتدارك النقص في تراجع الموارد الذاتية أو ستضطر الى مزيد التقشف على مستوى النفقات خاصة نفقات التنمية وهذا الخيار له تداعياته السيئة على النمو الاقتصادي.
4) المخيف في هذا العجز التجاري المسجل خلال الأربع أشهر الأولى لهذه السنة هو العجز الطاقي الضخم بقيمة 4 مليار دينار من جملة 4.8 مليار دينار وتراجع صادرات الفسفاط ومشتقاته ب 26.3%
5) الصين سجلت لوحدها 2.5 مليار دينار عجزا تجاريا مع تونس خلا هذه الفترة تليها روسيا (2.2 مليار دينار) ثم الجزائر (1.4 مليار دينار) ثم تركيا (0.9 مليار دينار) ثم اليونان (0.6 مليار دينار) ثم أكرانيا (0.5 مليار دينار).
6) هذه السياسة في إدارة الموجودات من العملة الصعبة أثرت سلبا على النمو الاقتصادي. ففي الثلاثي الأول من سنة 2024، وبالانزلاق السنوي، أي مقارنة بالثلاثي الأول من السنة الماضية، نسبة النمو الاقتصادي هي الأضعف مقارنة بالسنتين الماضيتين 2022 و2023. فلا تجوز المقارنة مع سنوات 2020 و2021، حيث تداعيات الجائحة الصحية (الكوفيد 19)، فهي سنوات استثنائية. فنسبة النمو الاقتصادي في الثلاثي الأول من سنة 2024، 0.2%، هي أضعف بكثير ممل تحقق في نفس الفترة من سنة 2023 1.6% ومن سنة 2022، 2.5%. وهو ما يعني أن المواصلة في نفس السياسة المعتمدة خلال السنة الماضية أي تفضيل تسديد الديون على حساب الاقتصاد الحقيقي سيؤدي الى نتائج أكثر سوءا بمفعول التداعيات التراكمية السيئة لهذا التمشي.
7) منذ سنة 2021، بدأ النمو الاقتصادي في منحى تنازلي خطير فقد نزل هذا النمو من 4.6% خلال سنة 2021 الى 2.8% في سنة 2022 الى 0.4% خلال سنة 2023 وهو مرشّح للانخفاض أكثر من ذلك إن واصلنا في نفس السياسة الاقتصادية ونفس التمشي واعتبار ما تحقق في السنة الماضية إنجاز كما تبينه الوثيقة الرسمية للحكومة التونسية. الأجدر بنا أن نراجع هذا التمشي الذي سلكناه في سنة 2023 حيث أننا اعتبرنا أن تسديد الديون الخارجية إنجازا عظيما وأغمضنا أعيننا على تأثير ذلك على الاقتصاد الوطني وكان الأجدر بنا أن نجد المعادلة المرجوة بين تسديد الديون الخارجية ودفع النمو الاقتصادي أي تجنب سياسة التقشف على القطاع الخاص وحرمان الاقتصاد الوطني مما يلزمه من مواد أولية ونصف المصنعة الضرورية لخلق الثروة، فنحن لا زلنا مع الأسف اقتصادا تبعيا في انتاجه للثروة.
8) على المستوى القطاعي، تقريبا كل القطاعات الانتاجية شهدت تراجعا ملحوظا على مستوى الانتاج ونسب نمو جلها سالبة ما عدى
• الفلاحة بنسبة نمو محتشمة 1.6% حيث لم يسترجع هذا القطاع حيويته الى الآن مقارنة نما كان عليه قبل الجائحة الصحية أي في سنة 2019 وما قبلها
• السياحة بنسبة نمو مقبولة ب 6.6% لكنها أقل من نصف ما تحقق في السنة الماضية أي 14.9% وهو ما يستدعي الحذر بما أن هذا القطاع كان له الفضل في تمكين الدولة من سداد الديون الخارجية، فإن تواصل هذا التراجع في سنة صعبة بامتياز على مستوى تسديد الديون الخارجية قد يفسد حتى سياسة تفضيل تسديد الديون نفسها علاوة على تداعيات ذلك على النمو والبطالة.
9) الملفت للانتباه، هذا التراجع المذهل لقطاع المناجم وقطاع البناء، حيث سجل قطاع المناجم نسبة نمو سالبة ب-9.9% وقطاع البناء كذلك ب -6.8% وهو ما يستدعي من الحكومة، إذا أرادت تطبيق رغبة رئيس الجمهورية في الاعتماد على الذات، توجيه المبلغ المتلقي من الاقتراض المباشر للدولة من البنك المركزي (حوالي 4 مليار دينار) الى تجديد أسطول السكك الحديدية لنقل الفسفاط وكذلك الآلات والمعدات القديمة لشركة فسفاط قفصة حتى يعود هذا القطاع الى سالف نشاطه فهو مصدر مهم من العملة الصعبة. أما قطاع البناء فقد أنهكته السياسة النقدية المعتمدة من البنك المركزي بنسبة فائدة عالية نفّرت المستثمرين من الاستثمار في هذا القطاع وعجّزت العائلات التونسية على الاقتراض من أجل بناء أو اقتناء مسكن. هذا التهاوي لقطاع البناء له تداعيات سيئة جدا على المهن الصغرى من بنّاي ونجار وحداد وغيره من المهن العديدة التي توفّر الشغل للتونسيين.
10) هذه السياسة النقدية كان لها أيضا نصيب الأسد في تراجع الطلب الداخلي من استثمار واستهلاك حيث أن تراجع النمو الاقتصادي خلال الثلاثي الأول من هذه السنة، كسائر الثلاثيات الأخرى من السنوات الأخيرة، أثر سلبا على النمو الاقتصادي حيث نما الطلب الداخلي ب0.4% فقط وساهم ب45% في تباطء النمو الاقتصادي. أما الطلب الخارجي (الصادرات ناقص الواردات) فقد أثّر سلبا على النمو الاقتصادي حيث نما حاصل التجارة الخارجية ب0.26%-
11) أما على مستوى مؤشرات البطالة، فمن المفروض أن يكون هذا الانكماش الاقتصادي له تداعياته السلبية على خلق موارد الرزق كما هو الشأن في السنوات السابقة ومن بينها انكماش النمو الاقتصادي في السنة الماضية، أي سنة 2023، الى 0.4% مع تفاقم نسبة البطالة من 15.2% سنة 2022 الى 16.4% في سنة 2023 وهو أمر منطقي. لكن ما فاجئني في الحقيقة هذا التراجع في نسبة البطالة من 16,4% في الثلاثي الرابع للسنة الماضية الى 16.2% خلال الثلاثي الأول من هذه السنة وهذا يستدعي من المعهد الوطني للإحصاء تقديم تفسير لذلك بنشر التوزيع القطاعي لإحداثات الشغل. فالتفسير الوحيد الذي قدمه المعهد هو أن عدد الناشطين ارتفع بصورة كبيرة (ب 61 ألف و 400) مقارنة بعدد العاطلين عن العمل والذي ارتفع فقط ب ألف و 800 وهو ما يعني أن الاقتصاد الوطني توصّل الى إحداث 59 ألف و600 موطن شغل جديد بالرغم من نسب النمو الضعيفة وفي أغلبها سالبة لجل القطاعات الاقتصادية وهو أمر يدعو الى الريبة في هذا العدد خاصة وأن الاقتصاد الوطني لم يتمكن من إحداث هذا الرقم حتى في السنوات التي حقق فيها نسب نمو أرفع بكثير من 0,2%. فإن كان تفسير ذلك أن هذا الرقم المرتفع من احداثات الشغل يتعلّق بالاقتصاد الموازي، خاصة وأن هذا الأخير يشغّل أكثر من 40% من اليد العاملة التونسية، فهذا ناقوس خطر يهدد التوازنات المالية للدولة وللصناديق الاجتماعية بما أن هذه الفئة من المشتغلين في الاقتصاد الموازي لا يصرحون لدى مصالح الجباية ولا لدى مؤسسات الضمان الاجتماعي وهي خسارة مالية مهمة للدولة ولمؤسساتها الاجتماعية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115