نظرية المؤامرة وفعلها المدمّر

كثرٌ هم الفلاسفة الذين تحدثوا عن دور الشك في إدراك اليقين، منهم الفارابي وابن سينا والجاحظ وديكارت،

فالشك المنهجيي الذي يتجاوز "خداع الحواس" كما يقول ديكارت هو الذي يمكّننا من اخذ المسافة اللازمة من الادراك الحسي والمسلمات بغاية الوصول للاستدلال العقلي.
لكن ماذا لو تسرعنا بتفسير ظاهرة ما بالاعتماد على مزاجنا الغاضب او مخاوفنا غير المبررة؟ ماذا لو كانت كل شكوكنا لا تحيل الى تفسيرات عقلانية، بل هي حصيلة ارتيابنا وغياب ثقتنا بأنفسنا أو بالآخرين؟ ماذا لو اسقطنا اوهامنا وتخيلاتنا وافكارنا المسبقة على "هؤلاء الاخرين"؟ حينها نكون قد خلخلنا تفكيرنا العقلي وخدعنا أنفسنا...وربما ظلمنا الاخرين.
في كتاب " لماذا نصدق نظرية المؤامرة " يقدم استاذ علم النفس بالجامعات البريطانية ،روب بروثرتن Rob Brotherton))، تفسيرا يقترب من العلمية لنظرية المؤامرة والاسباب التي تجعلها سريعة التصديق، معتمدا على تجارب وابحاث اجراها مع زملائه الأساتذة المختصين ، فالنظرية التي تعتمد التشكيك في كل التفسيرات المتداولة للأحداث وتعتبرها دائما مواربة وتخفي الحقيقة ، تسوّق دائما الى فكرة ان هناك فئة من المتآمرين الاشرار الذين يشتغلون في الظلام ، ولهم قدرة كبيرة على نشر البؤس والالم بين الناس ، دون رحمة ولا شفقة ، تحركهم نزواتهم الشريرة وعقلياتهم المريضة، هذه الفئة من الناس تقدر بما تملكه من مكر على اشعال الحروب ونشر عدوى الامراض وبث الفوضى ، ليصبح كل "حادث سيء وراءه إرادة سيئة من مجموعة شريرة"....
ويستغل اصحاب نظرية المؤامرة الغموض الذي يرافق بعض الاحداث او النقص في المعلومة او الجهل ببعض الاسباب ، لبناء سردية "مقنعة" تجعلك تصدق روايتهم ، خاصة اذا كنت تبحث عن تفسير لحدث غير معتاد ، لا تقنعك حوله الروايات الرسمية المتداولة ، والمثال على ذلك ، ما شاع حول اغتيال كيندي من قبل المخابرات الامريكية أو القول بان احداث 11 سبتمبر 2001 هي من صنع امريكي لتبرير التدخل العسكري في الشرق الأوسط ،أو اعتبار موت الاميرة دايانا لم يكن سببه حادث مرور عرضي ، بل انه مدبر من القصر الملكي في بريطانيا ،
ولنتناول مثالا قريبا منّا عن نظرية المؤامرة، عندما روّج البعض ان الثورة التونسية حركتها دول غربية كانت تسعى لضرب الدولة الوطنية عبر أطراف داخلية، منهم المدونين ونشطاء مدنيين ومعارضين سياسيين، بل وهناك حتّى من كتب عن وجود تنظيم القاعدة ضمن المشاركين في المظاهرات التي طالبت بالحرية والديمقراطية والعدالة !!!
لكنّ ما الذي يجعل مثل هذه النظريات السخيفة مقبولة لدى عامة الناس؟ تستنتج احدى البحوث انه "عندما تفقد الناس السيطرة على مشاغل حياتهم ومصاعبها، فانهم يأخذون في البحث عن أنماط تفسير وهمية، وهذه الأنماط تقلل من حدّة العشوائية والشك والفوضى، حتى وان كانت التفسيرات تافهة ومحبطة." .

عقلية المؤامرة ...عقدة نفسية عدوانية؟
تقول نشرية علم الاعصاب Neuroscience في مقال صادر في 26 جوان 2023، بعنوان "سيكولوجية أصحاب نظرية المؤامرات " بان "اعتقاد بعض الناس في نظريات المؤامرة ناتج عن مزيج من مكونات شخصيتهم المعقدة ورغباتهم الخاصة، فهم يعتمدون بقوة على حدسهم وكذلك على شعورهم بالعداء تجاه الاخرين، وأحيانا تطغى عليهم مشاعر التفوق على من حولهم." إضافة الى ذلكـ، افرزت البحوث التي أجراها مختصوها ان الأشخاص الذين يعتقدون في نظرية المؤامرات هم متوترون وخائفون وهم دائمي الحاجة للإحساس بالأمان في بيئتهم، إضافة الى تقلباتهم العاطفية واندفاعهم القوي.
لكن الأخطر من تمكنها من الأشخاص، مهما كانت وظيفتهم في الحياة، هي ان تتحول نظرية المؤامرة الى ذُهان (psychose) مجتمعي، خاصة في فترة الازمات حين يسود القلق والخوف من الحاضر والمستقبل، اذ يمكن ان تؤدي الى تهديد النسيج الاجتماعي وتماسكه، و ان تدفع بمجموعات بشرية الى الركون للعنف ضد من تعتبرهم متآمرين، فمثلا، التقارير الكاذبة التي قدمها دونالد ترامب والتي تفيد بان انتخابات 2020 قد وقع تزويرها قد دفعت بمجموعات مساندة الى استعمال العنف الشديد عند مهاجمة الكابيتول ، في جانفي 2021.
نظرية المؤامرة والشعبوية:
وتنسجم نظرية المؤامرة مع الشعبوية، فكلاهما يقدم تحليلا بسيطا وساذجا وسطحيا لواقع معقد ومتشعب، مستغلا غياب الثقة في النخب وكذلك حالة الريبة والغموض التي تسيطر على الحياة الاجتماعية، وكلتاهما تحاول استخدام التبسيط البلاغي والاختزال المفرط لتقديم الصعوبات والعراقيل والفشل المتكرر على انها نتيجة لأفعال مجموعات قوية ونافذة تعمل في السرّ. يقول الاكسيس دو توكفيل Alexis de Tocqueville:
"بشكل عام، الأفكار البسيطة وحتى الساذجة هي التي يمكنها أن تسيطر على عقول العامّة. ففكرة واضحة ودقيقة حتى لو كانت خاطئة ستكون دائمًا لها قوة أكبر من فكرة صحيحة ولكنها معقدة."
ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي و ما صاحبها من شهية للكتابة دون معرفة احيانا او محاولة تدقيق أو غربلة، او بحث في تفسير الاحداث والظواهر، زاد الاعتقاد في المؤامرات، والغريب ان القارئ، مهما كان مستواه، لا يكلف نفسه أحيانا عناء البحث والتدقيق حول مدى صحة المعلومة التي ينقلها، و هكذا فان "دفع الناس للاعتقاد في نظرية المؤامرة يجعلهم يرون العالم بلونين فقط ، فهو صراع واضح بين الخير والشر، بين الشعب النقي والنخب الفاسدة ، المتآمرة".
عموما ، في زمن الشعبوية تصوغ العقلية التآمرية المخيال السياسي السائد، و تستفيد من تنامي الريبة والعجز في المجتمع ومن تلاشي القيم المشتركة مثل المواطنة والانتماء وكل المعتقدات الجامعة، فالمنافسة السياسية لم تعد تُبنى على سردية المنطق والاقناع ولا على "الخطابات الحجاجية" مثلما يعتقد علماء الاجتماع ، بل تصبح حروبا دون كيشوتية متواصلة ضد اشباح يتحركون في مستنقع المؤامرات ويتحول الفعل السياسي المختلف ، مهما كانت بنيته المنطقية والعقلانية وسلامة مقاصده، الى "مؤامرة تهدد كيان المجتمع"، مجتمع يُفرض عليه المتخيّل ويطغى عليه الارتياب المرضي ، مع ما ينجر عن ذلك من كوارث ومظالم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115