بعنوان " الإشتراكية او البربرية" مستلهما مقولة فريديريك انجلس. و رغم أن المقال لم يتحدث عن الإشتراكية التي أكد أنها لم تتحقق و تحدث عن بربرية الرأسمالية الإمبريالية و تمظهراتها في العدوان على غزة فقد كان العنوان مستفزا إذا خصصناه على بلادنا. إذ يطرح تساؤلات حول الإتجاه الاقتصادي الذي يجب أن نسير فيه أو ما يعبر عنه بمنوال التنمية.
فهل نسلك طريق الإشتراكية أونسلك طريق الليبرالية حتى نتفادى السقوط في البربرية و التخلف و الهمجية.
رأسمالية الدولة ليست بالإشتراكية
تمظهرت الإشتراكية التي تحدث عنها المنظرون الماركسيون في نمط الإقتصاد الذي ساد في الإتحاد السوفياتي و الصين و البلدان التي كانت دور في فلكها. و تمثل هذا النمط الإقتصادي في ملكية الدولة لوسائل الإنتاج و سيطرتها على التجارة الداخلية و الخارجية. اظهرت التجربة التاريخية لهده البلدان أن ذلك لم يكن سوى انتقال من الرأسمالية التقليدية إلى رأسمالية الدولة. فكبار مسؤولي الأحزاب الشيوعية الذين هم في نفس الوقت كبار مسؤولي الدولة شكلوا طبقة بيروقراطية (بيروقراطية الدولة) منفصلة عن الطبقة العاملة لها امتيازاتها و مصالحها و باتت عبئا على الطبقة الشغيلة و عائقا للتطور الإقتصادي في تلك البلدان. و بعد سنوات من الأزمات الإقتصادية سقطت منظومة رأسمالية الدولة كقصور من الكرتون في جميع بلدان الإتحاد السوفياتي و في الصين و عادت الرأسمالية بقوة و بمظاهر أكثر فضاعة من البلدان الرأسمالية التقليدية.
تونس بحاجة إلى رجات ليبرالية : التحرير التام للتجارة الخارجية (مثلا)
بالربط مع واقعنا في تونس فإن بلادنا عرفت أيضا فترة من رأسمالية الدولة في الستينات و التي ربما كانت ضرورية لإحداث التراكم الرأسمالي البدائي قبل أن تدخل بلادنا منذ السبعينات في منعرج ليبرالي و لو بطريقة متلكئة و مترددة.
و الآن و بعد 50 سنة و رغم الجرعات الليبرالية الهامة لازالت بيروقراطية الدولة تسيطر على مفاصل أساسية للإقتصاد و تمنعه من التطور إلى الأمام دفاعا عن مصالحها و امتيازاتها
و تعد التجارة الخارجية المعقل الحصين لبيروقراطية الدولة لا فقط في تونس بل في كل البلدان التي كانت تسمى اشتراكية. فالدولة لازالت تحتكر عديد المواد الأساسية مثل الوقود و الأدوية و القمح و الزيت النباتي و الشاي و السكر و القهوة. لقد أثبتت التجربة أن بيروقراطية الدولة و مؤسساتها أصبحت عاجزة عن توفير هذه المواد بصورة كافية. و حتى إن كانت في السابق قادرة على ذلك ( كما تصرح دفاعا عن نفسها) فقد أدى ذلك إلى تراكم ديون كبيرة أصبحت ترزح تحتها الدواوين المختلفة و اصبحت في حالة عجز شديد عن توفير تلك الديون و تلك المواد.
و ترتبط سياسة الدعم باحتكار الدولة للتجارة الخارجية. و يشكك العديد من المختصين في حقيقة دعم الدولة للعديد من المواد مثل الأدوية و الوقود و السكر و القهوة. فلماذا تحتكرها إذن إذا لم تكن تدعمها؟؟؟
و حاليا و في حالة ندرة تلك المواد يصبح ما يسمى بالدعم شعارا فضفاضا. فلا يمكن الحديث عن الدعم في غياب المواد الاستهلاكية.
نعتقد أن الإقتصاد التونسي في حاجة إلى تحرير تام للتجارة الخارجية و مراجعة و ترشيد سياسة الدعم حتى يذهب الدعم حقا غلى مستحقيه. و ربما من الضروري انتهاج المرحلية بدأ بمواد غير أساسية مثل السكر و القهوة و الشاي وصولا إلى المواد الأخرى. و بالنسبة للأدوية و إذا لم يتم تحرير استيراد الأدوية و رفع احتكار الصيدلة المركزية ( و لو بصورة تدريجية) فإن أزمة الدواء في تونس ستتفاقم و سيؤدي ذلك إلى تنشيط المسالك الموازية مع ما يمثله من مخاطر على الصحة العامة.
و لا يمكن أن نفهم دفاع بعض اليساريين و النقابيين عن احتكار بيروقراطية الدولة للتجارة الخارجية. فماهي فائدة الطبقات الشعبية من ذلك و الحال أن المواد مفقودة و ستتعمق الأزمة؟؟ و ما هي مصلحة الشغالين في أن يسيطر مجموعة من الموظفين على مسالك التوريد و مسالك التوزيع دون أي وسائل تعديل أو سلطات مضادة وهم يفعلون ما يريدون. فقد يكون من المفيد للطبقات الشعبية أن يستورد الخواص تلك المواد و يتنافسون فيما بينهم من أجل نوعية أفضل و أسعار أقل و أن تتكفل الدولة باستخلاص الضرائب و بتنظيم التنافس و المراقبة و الردع.
و نفس التوجه ينطبق على المؤسسات العمومية ذات الطابع الربحي و التي يجب خوصصتها. فالدولة عرفت دائما بسوء التسيير. فلا فائدة في أن تسير الدولة مصانع للحلفاء او السكر أو الحديد و الصلب و غيرها. تذكيرا بان الدولة كانت تسير النزل السياحية ومصانع الحليب و الياغرط و صنع الثلاجات.. ثم تخلت عنها بعد إفلاسها. و حسنا فعلت.
ليبرالية اجتماعية أو اقتصاد السوق الإجتماعي
من الضروري أن يعيد اليساريون تفكيرهم في معنى الإشتراكية و يجددونه. ذلك أن الرأي االسائد بأن الإشتراكية هي امتلاك الدولة لوسائل الإنتاج ( رأسمالية الدولة ) قد أثبتت فشلها الذريع. فعلاوة على إنها كانت مسخا للإشتراكية فإنها فشلت في التنافس مع النظام الاقتصادي اللبرالي و سقطت نهائيا.
ليس هنالك شك في أن اقتصاد السوق( اقتصاد ليبرالي) هو النظام المتاح اليوم و الذي أثبت نجاعته و قدرته على توفير حاجيات الطبقة الشغيلة. و لكن و في إطار اقتصاد السوق من الضروري الحفاظ على الطابع الإجتماعي و العمومي للقطاعات الأساسية مثل التعليم و الصحة و النقل و التأمين الإجتماعي. و تمثل ألية الضرائب ( عندما تكون عادلة و شاملة) الألية الأساسية لتوزيع الثروة بصورة عادلة و تقليص الفوارق الطبقية. و هو ما نجحت فيه عديد البلدان خاصة الإسكندينافية.