عيون المعاصرة في ثوبها الجديد

هناك من المعاني المحفزة ما تحُول أصالته وعمقه بينه وبين تصاريف الزمان،

لكأنه سرمدي أو يكاد. ذلك ما يمكن أن نستشفه حال التكشف على الخط التحريري الذي خطّه الثنائي توفيق بكار ومحمد المصمودي حينما أقدما على إطلاق سلسلة تُعنى بفصوص الأدب ونصوصه الموضوعة على غير منوال، واسمين قِطاف تلك السلسلة تيمُّنا بـ "عيون المعاصرة"، "بكل ما في العيون من الإيحاءات". فقد رسم ذلك الثنائي ببصيرة أوجا فسيحا يضع بين أيدي القراء معالجات روائية عميقة لما نعتاه بـ: "إنجازاتنا وخيباتنا... وحيرتنا وصوابنا وأخطائنا في مواجهة..." مصائرنا. كما: "يخبرنا عن أنفسنا في مسيرتنا المتعرّجة مع الزمن...متى عرفنا كيف نُحكِم الحوار معه...ونستمد منه...ما به نواصل... به الطريق..." أيضا.

لم يشأ من أحدث تلك السلسلة لقراء النصوص الإبداعية لسلسلتهم أن يكتفوا بموقع المستهلكين للآداب الغربية أو المنبهرين بتكنولوجياتها، القابلين بتحويل بلاد العرب إلى مجرد: "متحف لإمتاع متذوّقي العتيق، أو لوحة فولكلورية لتسليّة السواح". فاستنهضوا الهمم: "للخروج من سلبية المفعول به -تاريخيا- إلى إيجابية الفاعلين... قصد اختراع النفس من جديد".
هكذا تخيّر من سبقنا لاستكشاف عوالم الابداع الأدبي العربي، إعادة اختراع أنفسهم توافقا مع ما يتناسب مع سياقات زمانهم، مشرعين نوافذهم على: "ما اشتهر واستقر من إبداعات كبار الأدباء، [وكذا] ما هو جديد من عطاء الحاضر المتدفّق"، منخرطين بتدبّر وحكمة ضمن مشروع فتيّ التقت إرادات فاعليه حول ما به يصبحون أحرارا كرماء.
وإذ نقدر أننا لم نبرح بعدُ ذلك المربع الحصين الذي توشك السياقات المتشعبة التي نحياها على توسيع الهوة بيننا وبين تنزيله منزلة الواقع المعيش، فإننا نشدّد بصدق على أصالة هذا المشروع المفارق، منخرطين في النضال من أجل اقتلاع موطئ قدم ضمن صانعي العلوم والفنون الجديدة، مقبلين على استكشاف مظان الطرافة في شخصيتنا المفتوحة على مصير الكون قاطبة. حتى وإن بدا لنا أن أمر ذلك قد بات موكولا إلى ما ستبديه الإنسانية من تعقّل للفارق بين مجتمع الأفراد ومجتمع الأشخاص، ذاك الذي تنسجه حاضرا هيمنة شبكات التواصل الاجتماعي بسبق إصرار وترصد لاحدّ لهما. لذلك ينبغي أن يستهدف النضال كونيا صياغة مشروع لا يكتفي بفضائل التشبيك فحسب، بل تنزيل التضامن البشري منزلة الفعل، قصد العودة إلى الأساسيات وتحقيق التعافي.
تلك مهمة الأدب أزلا في بلائه الخرافي من أجل إيقاظ الضمائر ونضاله من أجل تحرير الإرادات، قصد صياغة عالم لا يقبل بجرعات التخدير وبخطابات أنبياء نهاية الكون، فاضحا تخاريفهم الـمُوحشة. بيد أننا وإذ نؤكد مجدّدا انخراطنا التام فيما ارتضاه من أنشأ هده السلسلة الأدبية الراقية، فإننا ننوه فيما يخص الخط التحريري لتجربتنا بعدد من الشروط التي نظنها كفيلة بإعادة تنشيط هذه السلسلة المكسب والاشراف عليها:
أولها: الاعتقاد في أن الآدب قد نشأت أولا وأخيرا من أجل المتعة، لذلك فهي لا تفتح العقول بالضرورة، إذا لم تصحّ رغبة تلك العقول في الانفتاح. إنما هي متعة مكتفية بذاتها لا أكثر ولا أقل، وما أحوج الإنسانية لذلك.
وثانيها: التوجّه الافقي الجامع لما نرتضيه من حراك ثقافي. فمربع النواة الأولى يأمل في التحوّل تدريجيا وبثبات إلى دائرة موسّعة تعكس حديقة الألف وردة.
وثالثها: الرغبة في وضع الكتابة الأدبية على محكّ التجريب والعبور بين الأجناس، وذلك أفُق يهمنا بذل صادق الجهود وأثمرها لصعود مراقيه.
رابعا: التشديد على ضرورة تمثل واقع يومنا بكل مكتسباته التقنية وعلوقه في شتى أنواع الفخاخ، وهو ما تكشفت عنه أشكال تعبيرية هجينة، خلاسية العيون ضبابية المآل. الشيء الذي يدعونا إلى التفكير مجدّدا في مدلول المعاصرة بعيون تعيد النظر في المعاصرة نفسها، حتى نكون حقيقة في "عيون المعاصرة".
وفق هذا التصوّر يستقيم من منظورنا أن يتسع أفق هذه السلسلة ليشمل عروض أدبية وجمالية غير تلك التي خلُصت للجنس الروائي، مُنفتِحة وبالإضافة إلى العروض الروائية والمجموعات القصصية، على التحبير في السير الذاتية ورصيفتها الغيّرية، فاسحة مجالا للخواطر الفكرية، والمقالات الحرّة، والعروض الصحفيّة المبتكرة، وجميع ضروب التجريب الفني السردي التي تعرفها الكتابة الإبداعية في لغة الضاد مشرقا ومغربا، وكذا ببلدان المهجر مهما طوّفت بها المسافات وأثّرت في مضامينها دواعي المثاقفة.
نقطة الانطلاق في هذه المغامرة الجديدة المتجدّدة ستمثّلها المجموعة القصصية الثانية للكاتب والإعلامي ومنتج الأفلام الوثائقية حسن المرزوقي، وهي مجموعة تحمل عنوان "سوق العصر". فقد اقترح علينا هذا الذي اعتبر نقاد مجموعته الأولى "النذر" أنه "يصنع بحساسيته الرفيعة فانتازيا ويمتلك كاميرا قناص ليجهز على العالم بعدسة استثنائية" بعد أن اختطف جائزة القصة القصيرة لدورة 2023 لمعرض تونس الدولي للكتاب، مجموعة جديدة صاغها وفق كتابة تماس تحفر في سياقات الآن والهنا تونسيا، مع المزج بحذق بين أسلوبي علي الدوعاجي والبشير خريف "الضامرين" وفق تمثّل التونسيين للظرف والفكاهة.
كما ستصدر عن نفس السلسلة في ثوبها الجديد تباعا محاولات روائية فنّية سردية ذات نفس شاعري تبتّ في مواضيع حارقة على شاكلة اندساس الفكر السلفي في تجاويف الثقافة القاعدية السائدة عربيا، وتزايد التشوّهات الطارئة على سلوك الأطفال والمراهقين، وتشريح ذاكرة الاغتصاب نسويا، واستشراء ظاهرة إدمان المخدرات، وتشعّب مسالك تحرّر الذهنيات، والاخفاق في تطوير سجل القيم والمعايير الجمعية، وجميعها قضايا يمكن أن يصيب تأويلها أدبيا وفنّيا نتائج فارقة مقارنة بتلك التي يمكن تحقيقها من خلال الاكتفاء بالجنس الروائي على طاقته التي لا تضاهى في استكشاف خفايا الأنفس وما تسرّ القلوب.
وهكذا فإن ما يحسن الاحتفاظ به وفقا لخط تحرير "سلسلة عيون المعاصرة" في ثوبها الجديد، هو فتح نافذة فسيحة على ما بوسعنا اصطفاؤه - باعتبار طبيعته الخلاسية العابرة للأجناس الأدبية - من خواطر وشهادات حول مسارات حياتية وتجارب إنسانية، وعروض نقدية وفكرية يمكن أن تشكّل مقترحات طريفة لمزيد فهم جملة من الظواهر المسكوت عنها داخل مجتمعاتنا العربية، بشرط أن تضجّ تلك العروض بالحياة في عميق ثرائها، وفي هشاشتها الأكثر استحضارا لانقلابية الفن في نزوقه وبريقه الفتان أيضا.

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115