منذ منتصف الثمانينات بعد خروج المقاومة من بيروت اثر حصار 1982.وكانت لبنان المكان الأساسي للنضال الوطني الفلسطيني بعد خروج المقاومة من الأردن اثر معارك أيلول الأسود التي انطلقت في سبتمبر 1970.
وظلت حركة التحرر الوطني الفلسطيني تعمل على إيجاد موقع قدم اثر خروجها من بيروت لسنوات.وفي هذا الإطار فرضت غزة نفسها كمركز ثقل جديد للنضال الوطني ومواصلة العمل السياسي.وقد تدعم هذا الموقع لسببين مهمين وأولهما تحول المقاومة الوطنية وارض المعركة من البلدان المجاورة مثل الأردن ولبنان ومصر الى فلسطين والأراضي المحتلة .فكان هذا التحول عبارة عن العودة إلى الأصل بعد سنوات الضياع والبعد في أراضي تجمع الشتات الفلسطيني.
أما المسألة الثانية التي دعمت موقع الداخل وبصفة خاصة غزة في النضال الوطني الفلسطيني فهي تحررها من وصاية الأنظمة العربية ومحاولاتها المتواصلة للتدخل في القرار الوطني الفلسطيني حسب مصالحها .فقد كانت استقلالية القرار الوطني الفلسطيني عرضة للتدخل والتأثير من الأنظمة العربية في إطار علاقاتها بالدول الكبرى .وكان هذا التدخل ضريبة عالية في بعض الأحيان جدا دفعتها الثورة الفلسطينية وبصفة خاصة منظمة التحرير مقابل تواجدها في البلدان العربية وبعض الدعم المالي واللوجستي الذي كانت تتلقاه .
وقد شكل تحول نقطة الثقل في المقاومة الوطنية الفلسطينية الى غزة تغييرا لا تغييرا جغرافيا فقط بل كذلك سياسيا وميدانيا وعسكريا .فقد اقتربت المقاومة من العدو واصبحت المواجهة مباشرة بما نتج عنها من مآسي وآلام وتدمير .
كما استفاد القرار الوطني الفلسطيني من هذا التحول في مركز ثقل النضال الوطني حيث استرجع الكثير من استقلاليتها التي فقدها من خلال ترحاله عبر البلدان والعواصم العربية .
ويؤشر العدوان والصمود في غزة إلى تحول جذري في حركة المقاومة الفلسطينية والنضال الوطني.و في رأيي يمكن لنا تقسيم هذه المسيرة الى ثلاث مراحل تاريخية كبرى .
- مرحلة وصاية الأنظمة العربية
وقد انطلقت هذه المرحلة منذ قرار التقسيم الذي صوتت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 والقاضي بانهاء الانتداب البريطاني لفلسطين وتقسيمها الى ثلاث كيانات جديدة في دولة عربية ودولة يهودية ووصاية دولية على القدس وبيت لحم .
وفرضت عديد الدول العربية قرار التقسيم واوكلت لنفسها مهمة تحرير فلسطين وصنفتها ضمن مهامها الإستراتيجية .
ولم تبدأ الحركة الوطنية الفلسطينية مع قرار التقسيم حيث انطلقت مع بداية القرن العشرين ضد الانتداب البريطاني لإنهاء الاحتلال .وكان الشيخ أمين الحسيني وعبد القادر الحسين وعز الدين القسام الذي اختارت حركة حماس اسمه لإطلاقه على كتائبها المقاتلة من ابرز قادة الحركة الوطنية في تلك الفترة .ويعتبر إضراب 1936 أهم محطة في التاريخ الوطني الفلسطيني والذي جابهه الاستعمار البريطاني بالحديد والنار ليقع العديد من الشهداء والجرحى في صفوف الشعب الفلسطيني .
مع قرار التقسيم انتقل مركز ثقل النضال ضد وجود دولة إسرائيل الى الأنظمة العربية بالرغم من وجود حركات مقاومة على الأراضي المحتلة.وقد أخذت هذه الأنظمة على عاتقها قضية تحرير فلسطين معتمدة على جيوشها وعلى قدرتها في أيام معدودة على القضاء على العصابات الإرهابية مثل الهاغانا والاورغون والتي ارتبكت عديد المجازر في حق الفلسطينيين لدفعهم إلى الخروج من أراضيهم والاستقرار في مخيمات اللاجئين في البلدان المحيطة وسيكون إعلان استقلال وقيام دولة اسرائيل في ماي 1948 نقطة انطلاق أولى للحروب العربية الإسرائيلية والتي استمرت الى حدود مارس 1949.
وقد شكلت هذه الحرب نقطة انطلاق الصراعات مع الكيان الصهيوني وتعبئة كبيرة للشعوب العربية لدعم القضية الفلسطينية والحركة الوطنية في ذات الوقت لتصبح تدريجيا قضية العرب الاولى .فقد انطلق العديد من الشباب على الاقدام من مختلف البلدان العربية للمساهمة في هذه المعركة .إلا أن اغلبهم وصلوا متأخرين الى ارض المعركة فقد منيت الجيوش العربية بهزيمة مشينة أمام العصابات العسكرية ونواتات الجيش الصهيوني المدعم من القوى الاستعمارية .
ولم تنه هذه الهزيمة هيمنة الأنظمة العربية ووصايتها على القضية الفلسطينية وقد اعطي وصول الأنظمة القومية والوطنية في بداية الخمسينات في مصر وسوريا والعراق دفعا جديدا لهذا التمشي .فجعلت هذه الأنظمة من تحرير فلسطين احد أهدافها الأساسية وعنصرا أساسيا في مشروع الوحدة العربية الذي ناضلت من اجله .
إلا ان الهزيمة المذلة التي عرفتها الأنظمة العربية في حرب الأيام الستة في جوان 1967 كانت بداية النهاية لهذا التمشي ولهذه المرحلة التاريخية في النضال الوطني الفلسطيني .
- مرحلة عودة القرار الفلسطيني
شكلت هزيمة 1967 نقطة تحول كبرى في النضال الوطني وفتحت مرحلة جديدة ستنقل فيها القرار وقيادة المعركة الى المؤسسات الفلسطينية والشعب الفلسطيني .
وقد عرفت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الزعيم ياسر عرفات تطورا كبيرا واصبحت الإطار الذي يوحد اغلب الفصائل المقاومة والمنظمات الاجتماعية والسياسية للشعب الفلسطيني.ولئن تكونت منظمة التحرير سنة 1964 الا انها بقيت تحت سيطرة وهيمنة الأنظمة العربية إلى حدود هزيمة 1967.
وقد شكلت هذه الهزيمة تحولا مهما حيث وصلت الى قيادة منظمة التحرير وعديد المنظمات الفلسطينية الأخرى مثل الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية قيادات شابة ذات التوجه القومي واليساري الراديكالي .واسترجعت المنظمات الفلسطينية دورها التاريخي في قيادة النضال الوطني الفلسطيني .
وقد حققت الثورة الفلسطينية خلال هذه المرحلة نجاحات هامة خاصة في المجال السياسي من خلال اعتراف عديد الدول وخاصة على المستوى الشعبي في الدول الكبرى بشرعية النضال الوطني الفلسطيني وضرورة حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وخاصة حق العودة وتكوين دولته المستقلة .
الا انه مع هذه الانتصارات السياسية فقدت المقاومة تدريجيا قدرتها العسكرية واقتصرت على بعض العمليات النوعية التي تقوم بها بعض الفصائل من حين الى اخر او الصمود البطولي امام محاولات التصفية والحصار من قبل جيش الاحتلال كما كان الشأن في بيروت سنة 1982.وكان ن الخروج من بيروت والابتعاد عن ارض المعركة نقطة نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة في التاريخ الوطني الفلسطيني .
- مرحلة عودة القرار للداخل
منذ خروجها من لبنان بدأت القيادات الفلسطينية المختلفة تبحث عن طريق مواصلة النضال الوطني الفلسطيني وانجع الطرق للدفاع على مطالب الشعب الفلسطيني .وقد واصلت هذا البحث لبعض السنوات لتفرض الانتفاضة الأولى في الأراضي المحتلة مرحلة جديدة في النضال الوطني الفلسطيني وهي اولوية الداخل على الخارج وبذلك تحولت الضفة الغربية وقطاع غزة الى نقطة ارتكاز للمقاومة .
الا أن هذا التحول لم يقتصر على جانبه الجغرافي بل كانت له ابعاد سياسية مهمة انعكست على مستقبل النضال الوطني الفلسطيني .فقد شهدت هذه الفترة تراجع القيادات والمنظمات اليسارية والقومية مقابل صمود المنظمات الإسلامية الجهادية كحركتي حماس والجهاد الإسلامي وعرفت هذه الفترة صراعات كبيرة بين الجانبين.وبالرغم من محاولات راب الصدع بين الطرفين فقد تواصل هذا الخلاف الى اليوم .
و يعود هذه الصراعات والخلافات الى التنافس بين الحركات اليسارية والقومية المنضوية تحت لواء منظمة التحرير والحركات الإسلامية بل ترجع الى تناقضات كبيرة حول إستراتيجية النضال الوطني الفلسطيني ومناهجه وسبله.فبينما ترفض الحركات الإسلامية الاعتراف والصلح فإن المنظمات التقليدية جعلت من بناء الدولة الفلسطينية كلفها ذلك ما كلفها هدفها الاستراتيجي منذ تبني برنامج النقاط العشر في منظمة لتحرير في منتصف السبعينات مرورا باسلوا ومدريد.
كما يمكن هذا الشرخ في المناهج حيث تتمسك الحركات الوطنية والتقليدية بالتفاوض بينما لا ترى الحركات الإسلامية الا الخيار العسكري .
تمثل هذه الملاحظات مدخلا تاريخيا لفهم التحولات التي عرفها النضال الوطني الفلسطيني والأهمية التي تكتسبها غزة في الحرب الدائرة رحاها أمام أعيننا وامام صمت العالم .