بين الحرب على أوكرانيا وصراع العمالقة: السباق نحو عالـم متعدد الاقطاب عام 2023

افتتح عام 2022 بالحرب التي شنها نظام فلاديمير بوتين يوم 24 فيفري على أوكرانيا خارج نطاق كل القوانين الدولية. وقد حاول الجيش الروسي في الأسابيع الأولى

من «العمليات العسكرية الخاصة» تركيع أوكرانيا والوصول إلى العاصمة كييف بعد أن أمطر البلاد، ولا زال بوابل من الصواريخ والقذائف التي استهدفت الجيش والمدنيين على حد سواء وخلفت بشاعات اعتبرها المجتمع الدولي «جرائم حرب» و«جرائم ضد الإنسانية».
أمام صمود الشعب الأوكراني بمساعدة عسكرية ومالية من قبل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تمكن الجيش الأوكراني من صد الهجوم الروسي البري واسترجاع عدد كبير من القرى والمدن المحتلة قبل موسم الشتاء وأجبر الجيش الروسي على التقهقر. ولم تبق لروسيا سوى إمكانية قذف المنشآت والمباني عن بعد بواسطة الصواريخ وذلك بالرغم من تجنيدها لأكثر من 300 ألف مقاتل اضافي. في الأثناء قرر بوتين، بعد استفتاء صوري نظم تحت القنابل، ضم أربع مقاطعات أوكرانية في منطقة الدومباص الغنية بالمواد الطبيعية الثمينة وبنسيج صناعي متطور واحتلال مفاعل زابوريجيا، أكبر مرفق نووي في أوروبا.
وكان الرئيس الروسي -منذ سنين - يطالب بعدم وصول منظمة الحلف الأطلسي إلى حدوده وفي غياب ذلك قرر اجتياح الأراضي الأوكرانية مما عجل بانضمام السويد وفنلندا المحايدة لقرابة نصف قرن إلى منظمة الحلف الأطلسي التي تمكنت من استرجاع قواها وجمع التأييد لعملياتها المتنوعة. وعلى غرار ما حصل في نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت المنظمة الأطلسية حجر الزاوية من جديد في الدفاع عن الأمن الأوروبي وأهم منظمة عسكرية في وجه روسيا. ولا تزال الأزمة الأوكرانية مفتوحة بالرغم من مساعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي لم يدخر جهدا لإقناع فلاديمير بوتين بالتخلي عن نهج الحرب والشروع في مفاوضات سلمية ولو أن بوادر أصبحت واردة بعد الإعلان الأخير لوزير خارجية روسيا سيرغي لافروف للدخول في «مفاوضات» مشروطة.
الانتخابات النصفية الأمريكية تعرقل سياسات جو بايدن
انتخابات 8 نوفمبر اسفرت كما كان متوقعا إلى فقدان الديمقراطيين للأغلبية في مجلس النواب مع الحفاظ على مجلس الشيوخ. وهو ما يهدد سياسات الرئيس جو بايدن المستقبلية والذي وجد نفسه مع اندلاع الحرب في أوكرانيا «مجبرا» على تغيير استراتيجياته الرامية إلى احتواء الصين. فقد رجعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى المربع الأوروبي بعد أن بدأت تغادره مع انسحاب قواتها من العراق وأفغانستان. وأصبح اليوم المعطى العسكري والمالي والإستراتيجي الأمريكي ركيزة في أمن أوروبا كما كان منذ الحرب العالمية الثانية. وواشنطن عازمة على تقوية قدراتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية للتصدي للزحف الصيني في منطقته الحيوية بتمتعها بقدرات تصديرية للنفط والغاز تمكنها من إرساء تحالفات استراتيجية جديدة في وجه بيكين.
القارة الآسيوية وصراع العمالقة
شهدت القارة الأسيوية عام 2022 تحركات دبلوماسية مهمة في إطار قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا المنعقدة في بعاصمة كمبوديا بنوم بينه. ويشكل هذا المجمع مجموعة من الدول الآسيوية التي تبحث منذ عقود ربط شراكة جهوية تحمي مصالحها من التغول الصيني. هذه السنة، وبعد التأخيرات من جراء جائحة كورونا، انعقدت القمة على ثلاثة مراحل، الأولى ضمت الدول الأعضاء يوم 11 نوفمبر والثانية تجسمت في قمة أمريكية آسيوية في 12 نوفمبر شارك فيها الرئيس الأمريكي. وتمكن جو بايدن من اقتلاع اعلان موحد يندد بالتغول الروسي ويساند التوجه الأمريكي ويقر مبدأ التعاون الإستراتيجي مع واشنطن تجاه الصين. أما القمة الثالثة فجمعت خلال شهر ديسمبر الدول الآسيوية بالاتحاد الأوروبي كشريك ثان. وتسعى الدول الغربية الحصول على مساندة آسيوية تحد من ضغط بيكين وموسكو في إعادة صياغة المشهد الدولي نحو نظام متعدد الأقطاب يخسر فيه الغرب سلطته على مفاصل العلاقات الدولية.
أوروبا وخطاب العنصرية
شهد الفضاء الأوروبي هذا العام تنظيم انتخابات ديمقراطية في عدة بلدان من بينها فرنسا والسويد وإيطاليا والمجر سجلت جميعها صعودا مذهلا للأحزاب اليمنية المتطرفة التي أصبحت تربك توازن الإتحاد الأوروبي. ولئن لم ينجح اليمين المتطرف في الصعود إلى الحكم في فرنسا الا ان «التجمع الوطني» لمارين لوبان أصبح في الواقع أهم حزب في البلاد ويتمتع ب 89 نائبا في البرلمان يعملون على «تطبيع الفكر المتطرف» مع المشهد السياسي الفرنسي. وقد شهدت المجر نفس التوخي حيث حافظ الوزير الأول فيكتور أوربان على الحكم لمواصلة سياساته الشعبوية المتطرفة. لكن أهم حدث سياسي عام 2022 صعود الفاشيين الجدد إلى الحكم في إيطاليا بعد أن فازت جورجيا ميلوني عن حزب «فراتيلي دي إيطاليا» في الانتخابات التشريعية لشهر سبتمبر. وهي ظاهرة جديدة تشير إلى إمكانية رجوع الفاشية إلى الحكم في أوروبا مثل ما حصل ذلك خلال ثلاثينيات القرن الماضي عبر انتخابات ديمقراطية حرة. نفس المنطق حكم الانتخابات في السويد حيث نجح هذه المرة حزب نازي في تصدر المشهد صحبة أحزاب يمينية متطرفة. وإن لا يشارك النازيون في الحكم فهم يشكلون رافدا ضمن الأغلبية الحاكمة. ظاهرة تتزامن مع عزوف الناخبين المتزايد وفقدان الثقة في الوعود الكاذبة للطبقات السياسية المتعاقبة بعد الحرب العالمية الثانية مع تصاعد خطاب الكراهية والعنصرية لدى فئات عريضة انضمت إلى الحركات الشعبوية المتزايدة. وسوف تكون هذه الظاهرة من أهم التحديات التي تواجهها الحكومات الأوروبية في المستقبل.
عام أسود في بريطانيا
شهر سبتمبر 2022 سوف يبقى محطة مهمة في تاريخ بريطانيا العظمى والعالم حيث شهد يوم 8 وفاة الملكة إليزابيث الثانية التي اعتلت عرش المملكة لسبعين سنة منذ 1952. وإن مثلت الملكة رمز تواصل ووحدة المملكة المتحدة ومجمع الكومنويلث فإن عام 2022 كان محطة بارزة في مشوارها شهد انقسام العائلة المالكة و «عزل» الأمير هاري وصعود الملك الجديد للبلاد شارل الثالث على العرش حاملا معه «فضائح» ولي العهد في تسعينات القرن الماضي. هذا الوضع المتردي يتزامن مع التدهور على كل الأصعدة المسجل في بريطانيا منذ أن قررت الانفصال من الإتحاد الأوروبي عام2016. وشهد العام 2022 تولي مقاليد السلطة ثلاثة وزراء هم بوريس جونسون، المستقيل في جويلية، وليز تراس المعينة في شهر سبتمبر، يومين قبل رحيل الملكة، ثم ريشي سوناك الذي خلفها إثر استقالتها بعد 44 يوما من الحكم .وفي هذه الظروف المهتزة يواجه الوزير الأول البريطاني وضعا كارثيا على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي تعاظمت فيه التحركات الاجتماعية والاضرابات بسبب ارتفاع نسبة التضخم إلى 10% وغلو المعيشة وتدهور المقدرة الشرائية واستفحال البطالة في مجتمع عرف في السابق التحكم في الظاهرة مع الحفاظ على أرقام إيجابية للتنمية في حين دخل الاقتصاد البريطاني اليوم مرحلة من الركود تبشر بتقلبات سياسية قادمة.
إفريقيا بين رجوع الاستبداد والتمسك بالديمقراطية
مرة أخرى تظهر البلدان الإفريقية هشاشة عمليات «التحول الديمقراطي» التي شهدتها منذ2011 مع إرساء أنظمة «ديمقراطية» في بلدان الساحل الإفريقي وفي بلدان «الربيع العربي». وشكل الانقلاب العسكري في 24 جانفي في بوركينا فاسو ضد الرئيس كريستيان كابوري وعلى يد بول هنري داميبا ،الذي تمت إزاحته بعد ذلك من قبل إبراهيم تراوري ، محطة إضافية في سلسلة التراجعات عن النهج الديمقراطي والرجوع إلى مربع الاستبداد. ويواصل، من ناحية أخرى، النظام التشادي برئاسة محمد ادريس ديبي الذي خلف ابيه في انقلاب عسكري عملياته القمعية بعد أن قرر تمديد المرحلة الانتقالية. نفس الممارسات تشهدها دول مجموعة الخمسة الساحلية وعلى رأسها مالي التي أصبحت، بعد انسحاب قوات برخان الفرنسية، مرتعا لمجموعة «فاغنار» الروسية الداعمة للنظام العسكري الجديد مع رجوع الحركات الجهادية للتحرك بقوة من أجل بسط نفوذها على المناطق الشمالية للبلاد. في نفس الوقت تتحرك الصين لتسليح الأنظمة الإفريقية من أجل تأمين ولاءات وتحالفات في إطار دعم استراتيجية طرق الحرير الجديدة الرامية إلى الهيمنة على السوق العالمية.
لولا داسيلفا يعود
انتخاب الزعيم العمالي لولا داسيلفا على رأس البرازيل يوم 30 أكتوبر خلفا للرئيس الشعبوي جايير بولسونارو يعيد القارة اللاتينية إلى مربع اليسار. وكان لولا قد حكم البرازيل بين 2003 و2011 قبل أن يسجن بتهمة الفساد وتقرر المحكمة العليا تبرئته من كل التهم. نجاح لولا داسيلفا في البرازيل جاء ضمن سلسلة من النجاحات التي سجلتها أحزاب اليسار خلال عام 2021 وانتهت هذه السنة بفوز لولا في البرازيل ولأول مرة في تاريخ كولومبيا بصعود غوستافو بيترو إلى سدة الحكم. هكذا تصبح 6 من اقوى البلدان اقتصاديا على 7 تحت سيطرة النهج اليساري في تسيير الشأن العام. رجوع «الموجة الحمراء» مثل تلك التي عمت القارة عام 2000 هو نتاج لفشل الحكومات اليمينية في تحريك عجلة الاقتصاد نحو تحسين ظروف العيش من ناحية والدخول في التحول الإيكولوجي الذي تشهده اقتصادات العالم. وهو ما يفسر نجاح الصين وروسيا، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، في إرساء علاقات استراتيجية مع بلدان أمريكا اللاتينية التي تمكنت من رفع صادراتها للبلدين في إطار شراكة اقتصادية أصبحت لها دعائم استراتيجية في مواجهة المد الأمريكي الذي عانت منه شعوب القارة لعقود. وهو معطى لا بد أن يكون له أثر في الأشهر القادمة على الصعيد الدولي.
الشرق الأوسط في صدارة المشهد الدولي
بدون منازع ظهر الشرق الأوسط في صدارة المشهد الدولي بنجاح قطر، كأول دولة عربية، في تنظيم نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2022 بالرغم من الانتقادات الصائبة وغير الصائبة التي وجهت للإمارة. وتمكنت منتخبات المغرب (التي أتت في المرتبة الرابعة دوليا) والسعودية (التي هزمت خلال التصفيات الأرجنتين حامل اللقب الجديد) وتونس (التي هزمت الوصيفة الفرنسية) من الإشعاع دوليا. وتمكنت مصر، بعد عناء، من العمل على فرض تقدم تاريخي في قمة المناخ «كوب 27» في شرم الشيخ بإرساء صندوق دولي لإعانة البلدان النامية وكان لدولة الإمارات العربية أن تنظم «معرض دبي العالمي» الذي أشع في المنطقة وجلب أكثر من 20 مليون زائر. لكن كل هذه النجاحات لم تخف الوضع المتردي في بلدان عديدة من العالم العربي وعلى رأسها فلسطين التي لا تزال تعاني من وحشية الاحتلال في حين تعددت البلدان العربية التي طبعت مع الكيان الصهيوني. وسوف تختتم سنة 2022 بمشاهد القمع في إيران للمواطنات الرافضات للحجاب وتعدد المظاهرات منذ ثلاثة أشهر في مختلف مدن البلاد على إثر مقتل الشابة مهسا أميني في مخفر شرطة الآداب خلال شهر سبتمبر.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115