«ارتياحه» لنجاح الزيارة في تطوير العلاقات الفرنسية الجزائرية نحو «ديناميكية مستدامة» وذلك بعد 60 عاما من استقلال الجزائر. واعتبر الرئيس الجزائري أن الزيارة كانت «ممتازة» وأنها «حققت تقاربا لم يكن ممكنا بدون شخصية الرئيس» الفرنسي.
وجاءت هذه العبارات الدبلوماسية لمحو أشهر من العلاقات المتأزمة بين البلدين المسكوت عنها خلال الزيارة، إثر تصريحات إيمانويل ماكرون في سبتمبر 2021 حول «النظام السياسي العسكري» الجزائري وابتزازه لذاكرة حرب التحرير. ومن مفارقات الزيارة أنها لم تتوج بتوقيع أي اتفاق تجاري أو اقتصادي كما جرت العادة ولم تخض في مسائل خلافية مثل ملف حقوق الإنسان المتعلق باعتقال 300 ناشط سياسي من «الحراك» والتبادل التجاري بين البلدين أو الموقف الفرنسي من الصحراء الغربية والمناورات العسكرية الجزائرية الروسية المقبلة في ظل أزمة الحرب على أوكرانيا. فما هي إذا مخرجات الزيارة التي اعتبرها الجانبان ناجحة؟
تسوية المرحلة الاستعمارية
زيارة ماكرون للجزائر تم التحضير لها بين الجانبين منذ أشهر وذلك من أجل إعادة صياغة العلاقات بين البلدين على أساس «التوازن» كما حرصت الجزائر على ذلك قبل الشروع في أي تفاوض أو اتفاق، من ذلك أن تنازل ماكرون على توجهه الأحادي الجانب في تقييم مسألة مخلفات الاستعمار بعد أن شكل هيئة بنجامين ستورا لمصالحة الذاكرتين. وقبل بتشكيل هيئة جديدة متناصفة بين البلدين للنظر «بشجاعة» في ملف فترة الاستعمار.
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
وقرر الرئيس الفرنسي فتح الأرشيف الفرنسي من 1830 إلى 1962 بصفة استثنائية أمام المؤرخين الذين سوف يعينون في الأيام القادمة لخوض هذه المهمة الدقيقة والحساسة. ويأمل الطرفان، في هذه المرة» التوصل إلى طي صفحة الماضي وفتح صفحات جديدة من التعاون المشترك والمستدام. وذلك في حد ذاته رهان حقيقي يفوق ما يصبو إليه الرئيس الفرنسي الذي تنتهي ولايته على رأس الدولة عام 2027 ولا يمكنه ضمان استمرار التوافق مع القيادة الجديدة للبلاد بعد خروجه من قصر الإليزيه.
الجزائر تقدم بيادقها
لأول مرة في تاريخ الجزائر عقدت قمة مع الرئيس الفرنسي بحضور قادة أركان الجيش الفرنسي والجيش الجزائري وقيادتي الأمن والمخابرات في اجتماع يوم 26 أوت والتي كانت المحور الأساسي للزيارة لما لها من تحول استراتيجي لفرنسا وللجزائر معا. وتقرر بعث مجلس أعلى للتعاون على مستوى الرئاسة لمواصلة المباحثات والتنسيق في مسائل التعاون الأمني والعسكري. باريس التي اتمت إجلاء آخر جندي لها في مالي في الأسبوع الماضي، بعد الأزمة مع الطغمة العسكرية الحاكمة، تريد استرجاع دور فعال في منطقة الساحل الإفريقي. وكانت الجزائر، التي تشارك مالي 1400 كم من الحدود، الفاعل الأساسي في تحقيق توافق في قمة الجزائر عام 2015 بين الفصائل المتحاربة لضمان الأمن والاستقرار في مالي ومن ثمة في منطقة الساحل الإفريقي.
وقد نجحت الجزائر هذه المرة في فرض دور أمني واقليمي جعل الرئيس تبون يصرح للصحافة أن البلدين سوف «يعملان معا في عدة ميادين خارج الجزائر وفرنسا». وفي طليعة هذه الملفات تأتي مالي وليبيا تحت غطاء مقاومة الإرهاب. تراجع ماكرون على موقفه السابق تجاه اتفاق الجزائر لعام 2015 فتح له الباب أمام ابرام صفقة مع الجزائر بعد أن دعم تعاونه العسكري مع النيجر جنوب الساحل الإفريقي. كذلك إعادة صياغة الإستراتيجية الفرنسية في المنطقة والتي سوف تمر حتما بالجزائر التي سبق ان فتحت فضاءها الجوي للطائرات الحربية الفرنسية في مقاومتها للحركات الجهادية في المنطقة. وهو ما يعطي باريس إمكانية صد النفوذ الروسي في منطقة المغرب الكبير. أما الجزائر، وبدعم فرنسي، فسوف تتمكن من لعب دور أكثر تأثيرا إقليميا في الملفات الشائكة التي لم تخضها في السابق بنفس الثقل.
شراكة رابحة للطرفين
اعلان الجزائر الموقع من قبل الرئيسين لخص المسائل التي سوف تحكم العلاقات الثنائية وهي تتعلق بمسائل الهجرة والتأشيرات والطاقة وتشريك الجالية الجزائرية في فرنسا والتعليم والصحة. وهي جميعها ملفات مفتوحة منذ سنوات بدون أمل في تحقيق أي تقدم. لكن قرار ماكرون السماح بقبول 8000 طالب إضافي لعدد 30 الف المتابعين لدراساتهم العليا في فرنسا يعتبر مؤشرا على تحول في سياسات باريس. وقد اتفق الجانبان على فتح ملف الهجرة على أن تمنح فرنسا تأشيرات لعائلات الأشخاص الحاملين للجنسيتين وللفنانين والرياضيين ورجال الأعمال والسياسيين المندمجين في العلاقات بين البلدين على أن تلتزم الجزائر بقبول المرحلين من الهاجرين غير النظاميين والتعامل الفعال في صد الهجرة غير النظامية.
وعدد اعلان الجزائر الملفات المفتوحة للتعاون والمتعلقة بمسائل التحول الرقمي والطاقة المستدامة واستغلال المعادن النادرة، ومسائل الصحة، والزراعة، والسياحة. وهي كلها ملفات واعدة بالنسبة للنسيج الاقتصادي الجزائري الذي يبحث على الخروج من اعماله التقليدية والدخول في مرحلة جديدة من النمو تتفتح على التكنولوجيات الحديثة.
ربما أهم مؤشر في التحول السياسي هو اعلان باريس انفتاحها الرسمي على الجالية الجزائرية والحال أن سياسات فرنسا، على اختلاف الأحزاب اليمينية واليسارية، رجحت الكفة منذ سنوات لصالح المغرب الذي حقق «اختراقا سياسيا» في حصول عدد من السياسيين الفرنسيين من أصل مغربي على مناصب حكومية وفي مؤسسات الدولة الفرنسية خلافا لما هو عليه الوضع بالنسبة للجزائريين. ويندرج هذا التوجه فيما اعتبره الرئيس الفرنسي «شراكة جديدة من أجل ومع الشباب».
وتواصل التشاور بعد نهاية زيارة ماكرون الرسمية للجزائر بين شركتي أنجي الفرنسية وسونتراك الجزائرية من أجل رفع كمية الغاز الطبيعي المباع لباريس بنسبة 50%. وأعلن أوليفييه فيران الناطق الرسمية باسم الحكومة الفرنسية أنه سوف يعلن في الأيام القادمة على حصيلة الاتفاق بين الطرفين. وهو ما يدل على رغبة الجزائر في فتح صفحة جديدة بعد أن ضمنت دورا إقليميا في منطقتها الحيوية معترف به من قبل فرنسا ومن ورائها الإتحاد الأوروبي.
باريس-زين العابدين حمدة