سباق متعدد الأطراف بين القوى العظمى في إفريقيا: زيارات مكوكية لإيمانويل ماكرون وسرغاي لافروف وأنطوني بلينكن

شرع وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن الأسبوع في في الماضي في زيارة لافريقيا الجنوبية والكونغو وروندا ردا على زيارتي وزير خارجية روسيا

سرغاي لافروف لعدد من البلدان الإفريقية كذلك انتقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الكاميرون والبينين وغينيا بيساو. وقد ثبتت جميعها الخلافات الجارية حاليا بين روسيا والبلدان الغربية على خلفية الحرب على أوكرانيا وعلى تبعاتها المباشرة على إفريقيا في حرمانها من كميات كافية من الحبوب والزيوت الشيء الذي أضر بالتوازنلت الغذائية وأصبح يهدد بعض البلدان بالمجاعة.
وكانت القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا قد ركزت تواجدها في بعض البلدان الافريقية وخاضت منذ 2012 حربا على الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي وفي وسط القارة ضد الحركات الجهادية بتقديمها دعما عسكريا ولوجستيا للبلدان المتضررة لمساعدتها على تقوية قدراتها العسكرية ضد حملات «بوكو حرام» وتنظيم القاعدة وداعش. لكن هذا الدعم الدولي أخفي، في حقيقة الأمر، المنافسة الجديدة بين الدول العظمى للهيمنة على القارة الإفريقية مع رجوع موجة من الانقلابات العسكرية هزت الاستقرار السياسي في بلدان غرب افريقيا.
زيارات دبلوماسية
الزيارات الثلاثة الرامية إلى تركيز استراتيجيات متجددة مع تصاعد الدور الروسي في افريقيا تراعي الدور الصيني الفعال في أخذ موقع في القارة السمراء باستخدام برنامج «طرق الحرير الجديدة». رباعي أمريكي فرنسي روسي صيني أصبح لاعبا أساسيا في السياسات الإفريقية وهو يريد ضمان حصة من خيرات إفريقيا، التي سوف تحتضن، حسب الإحصائيات الأممية، ربع البشرية مع حلول عام 2050، وتأتي في طليعتها المواد الطبيعية والمحروقات.
ما يسترعي الانتباه قدرة روسيا في السنوات القليلة الماضية على إزاحة النفوذ الفرنسي من جمهورية افريقيا الوسطى ومالي التي كانت موالية لباريس قبل أن تتمكن مجموعة «فاغنر» الروسية القريبة من الكرملين من أخذ مكان القوى الفرنسية وتغيير موازين القوى لصالح موسكو. لذلك جاء الرئيس الفرنسي إلى افريقيا مقترحا «اعادة بناء العلاقات مع البلدان الإفريقية» وربط الدعم العسكري الضروري لمقاومة الإرهاب بالمشاريع التنموية. وشكل مثال العلاقات مع البينين انموذجا في التوجه الجديد لباريس الذي ركز على دعم المشاريع التنموية في ميادين التعليم، والبنية التحتية، والتكوين المهني، والثقافة.
أما سرغاي لافروف فقد زار مصر والكونغو وأوغندا واثيوبيا وهي بلدان من الحجم الثقيل من أجل طمأنتها على ضمان حاجياتها من المواد الغذائية الأساسية بعد تضررها بسبب الحرب على أوكرانيا واستعداد بلاده إلى تنفيذ الاتفاق المبرم بين كييف وموسكو بوساطة تركيا بالرغم من العقوبات الغربية التي تعزل روسيا من السوق العالمية النقدية. وأكد لافروف في القاهرة أن «الأمين العام للأمم المتحدة أخذ على عاتقه مسؤولية رفع تلك التضييقات غير القانونية التي اتخذتها الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي ضد المسالك اللوجستية والمالية».
من جهته واجه الجانب الأمريكي احترازات في جنوب افريقيا، التي التزمت بموقف محايد في الأزمة الأوكرانية، وذلك بسبب تدخل واشنطن في ليبيا واسقاط نظام العقيد معمر القذافي بالرغم من الوعود المقدمة لها في مجلس الأمن الدولي. كذلك الشأن بالنسبة لرواندا التي لم تعط للولايات المتحدة أي تنازل. ورجع بلينكن إلى واشنطن، حسب ما نشرته الصحف الأمريكية، فارغ اليدين. لكنه ركز في خطابه أمام طلبة جامعة بريتوريا على «الإستراتيجية الجديدة في افريقيا» التي تقوم على التعاون في الميادين الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية والبيئة والاستثمار في الاقتصاد.
سباق عسكري
ويندرج المشهد الدبلوماسي الحالي في ما شهدته المنطقة في العقود الثلاثة الماضية من تفاقم في السباق العسكري بين الدول العظمى في افريقيا تجسم بتركيز قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي بعد القواعد الفرنسية والأمريكية والإيطالية. وتسعى واشنطن وباريس وموسكو وبيكين إلى دعم علاقاتها الاقتصادية بحضور عسكري استراتيجي يسمح لها بضمان نوع من النفوذ. وإن تواصل واشنطن في تصدر المشهد العسكري بخصولها على 34 مركزا عسكريا في اف يقيا يساعدها على القيام بعملياتها ضد الحركات الجهادية فإن روسيا والصين أصبحا منافسين جديدين في المنطقة من حيث بيع الأسلحة والعتاد وتدريب الجيوش.
وتختلف السبل بين تلك الدول. فرنسا تريد الحفاظ على نفوذها في المستعمرات القديمة وتسعى إلى تطوير علاقاتها مع البلدان الإفريقية نحو «شراكة استراتيجية» لا تقتصر على مقاومة الحركات الجهادية، بل تشمل التنمية والاستثمار والتحول الإيكولوجي. واشنطن لا تريد ترك القارة لمنافسيها ولو أن الأولوية القصوى تكمن في مقاومة النفوذ الصيني في المحيط الهادي والتغول الروسي في أوروبا. في هذا الإطار تسعى إلى تكوين الجيوش والمساهمة في العمليات العسكرية صحبة القوى الإفريقية. روسيا من ناحيتها استثمرت في العلاقات الموروثة من الفترة السوفييتية وطورت علاقاتها مع حلفائها مثل أوغندا ومصر والجزائر التي قررت خوض مناورات مشتركة مع روسية في إطار «درع الصحراء» ضد الحركات الجهادية. أما الصين فهي تشارك في عمليات الأمم المتحدة لفرض السلام في افريقيا وتعمل على إرساء وجود متعدد الجوانب يمزج العسكري بالاقتصادي وبالمالي. وهي تستثمر في تسليح 22 دولة افريقية. وارتفعت نسبة مبيعات الأسلحة منذ 2013 ب55%. وهي تضمن للبلدان الإفريقية ثلث العتاد العسكري من المنتوج الصيني بميزانية فاقت 110 مليار يورو.
نفوذ اقتصادي صيني
في الوقت الذي تحركت الدبلوماسية الغربية تجاه افريقيا للحد من النفوذ الروسي، تواصل الصين بصمت عمليات تغلغلها في المسالك الحيوية في القارة الإفريقية. فبعد نشر شبكات الألياف البصرية الضرورية للثورة الرقمية القادمة، ساهمت بكين في تمويل عديد المشاريع الاقتصادية والتجارية ومد المساعدة لعديد البلدان مما رفع حجم التداين الإفريقي تجاه الصين إلى 207 مليار دولار صرفت في 5000 مشروع. ويشمل هذا التمويل شبكة الموانئ والطرقات والمطارات في 23 دولة افريقية. وأشارت مؤسسة «ايد داتا» الأمريكية، المعنية برصد المعلومات حول الديون في العالم، أنه توجد «ديون خفية» قدرت ب 330 مليار دولار لم تذكر في التقارير الرسمية للدول.
هذا الوضع أصبح يربك واشنطن والعواصم الأوروبية التي تخشى من تحويل الهيمنة المالية الصينية والاستثمارات العمومية والخاصة إلى نفوذ سياسي يغير موازين القوى. فإن تغلغل الصين في الاقتصاد الإفريقي الهش يفتح الباب على العلاقات الزبونية والتبعية السياسية. وتتفرد بيكين بهذا التوجه الذي تدعمه فيالق من المواطنين الصينيين الذين اختاروا الإقامة في البلدان الإفريقية لدعم التوسع الاقتصادي الصيني. أحسن مثال لذلك تغيير وجهة شارع شارل دي غول في العاصمة السنغالية الذي أصبح «سوقا صينية» تكاد تنفرد فيه بيكين ببيع سلعها بعد أن كان شارعا تجاريا تهيمن فيه السلع الفرنسية.
مواقف افريقية متضاربة
أظهرت الدول الإفريقية تشتتا في المواقف تجاه ما يجري على الساحة الدولية. ولئن واصلت البلدان الفرنكوفونية علاقاتها مع فرنسا الا ان البعض منها مثل مالي وجمهورية افريقيا الوسطى اختارت الالتحاق بموسكو. كما ان استفحال جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية التابعة لها واندلاع الحرب في أوكرانيا جعلت كل بلد يختار ما يناسبه من علاقات بحسب المصالح الوطنية أو باعتبار العلاقات التاريخية. وظهر الانشقاق مع الأزمة الأوكرانية حيث صوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد اجتياح أوكرانيا نصف البلدان الإفريقية في حين احتفظ 17 بلدا بصوتها.
هذا الشرخ في البلدان الإفريقية الأعضاء في الإتحاد الإفريقي يظهر تراجعا للبلدان الغربية التي لم تعد تحظى بنفس النفوذ بعد أن تعددت المظاهرات الشعبية ضد «الوجود الاستعماري» لفرنسا خاصة في البلدان الفرنكوفونية وتنامي الشعور بعدم الثقة تجاه السياسات الأمريكية. وهو ما يجعل من القارة، أمام المحاولات الصينية والروسية في كسب ود الأفارقة، تحديا استراتيجيا للقوى العظمى ويطرح تساؤلا حول موقف البلدان الإفريقية من المنافسة بين الدول الكبرى في المنطقة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115