تقدما ملموسا على منافسيه. وإن تحقق فوز بيترو فسوف يؤكد موجة صعود الأحزاب والحركات اليسارية للحكم التي سجلتها انتخابات2020 و2021 خاصة في شيلي والبيرو وهندوراس. وتتطلع أمريكا اللاتينية للانتخابات الرئاسية في البرازيل في شهر أكتوبر القادم مع ترشح الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا الذي تعطيه استطلاعات الرأي تقدما ملموسا أمام الرئيس الحالي جايير بلسونارو.
ظهرت في السنتين الماضيتين تحولات ديمقراطية جسيمة في القارة اللاتينية اثر انتخابات في عدد من البلدان جميعها كللت بنجاح الأحزاب اليسارية في شيلي. فبعد صمود فينزويلا أمام الضغوط والمناورات الأمريكية والأوروبية لإقصاء الرئيس نيكولاس مادورو وتنصيب زعيم المعارضة خوان غوايدو الموالي للدول الغربية، سجلت الانتخابات في بوليفيا (عام 2020) وشيلي وهندوراس والبيرو ونيكاراغوا فوز تنظيمات اليسار المعادية للنفوذ الأمريكي في القارة الذي أسس لانقلابات عسكرية دموية أثرت سلبا في التاريخ السياسي لبلدان أمريكا اللاتينية. وأصبحت القارة اليوم شبه «معقل» للفكر اليساري الاشتراكي في حين تقهقر هذا التوجه في أوروبا وإفريقيا وآسيا وحتى في روسيا والصين اللتين تنتهجان نموذجا ليبراليا مخالفا للعقيدة الاشتراكية.
ويبدو توجه اللاتينيين واضحا في موقف جل دول القارة المساند للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه على أوكرانيا. وإن عدلت بعض العواصم من خطابها السياسي فهي لم تندد بالتدخل العسكري الروسي في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويدخل ذلك في إطار تكريس نظام عالمي متعدد الأقطاب تكون فيه أمريكا اللاتينية على اختلافاتها أحد أقطابه الأساسيين.
تأصيل المشروع الديمقراطي
الملاحظ في ملابسات السنتين الماضيتين أنه، بالرغم من جائحة كورونا، دخلت كل الدول في القارة اللاتينية في اعتماد النهج الديمقراطي للتناوب على السلطة مع الحفاظ على البعد الشعبي للسياسات المعتمدة. وربما رمز هذا التحول جاء من الشيلي الذي انتخب غبريال بوريتش زعيم الحركة الطلابية اليسارية الذي يبلغ من العمر 35 سنة. وقد وعد الرئيس الشاب بتغيير النظام الاجتماعي بالتركيز على نظام تربوي وصحي عمومي وإرساء نظام تقاعد جديد والعمل على احترام حقوق الأقليات وهي كلها مطالب تشق كل بلدان أمريكا اللاتينية التي تعاني من التوجهات الليبرالية التي أسستها الطبقات الثرية بمساعدة مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي.
الجديد في الوضع الحالي أن الرأي العام تحول لمساندة التوجهات الديمقراطية ونبذ الدكتاتوريات العسكرية. وهو تحول ملموس في صلب الأحزاب السياسية في جل البلدان ما عدا نيكاراغوا التي أسست لدكتاتورية عائلية بقيادة الزعيم الثوري دانيال أورتيغا الذي حول الثورة الصندينية إلى نظام تسلطي عبر تدليس الانتخابات. وتشهد القارة سباقات انتخابية نزيهة في جل البلدان كرست الممارسات الديمقراطية والمشاركة الشعبية المتزايدة في تقرير المصير. وهي حركية تتسم بها جل بلدان المنطقة على عكس ما هو ملموس في الديمقراطيات العريقة في الدول الغربية.
البرازيل، العملاق النائم
رجوع الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا لحلبة النزاع الانتخابي في البرازيل يعتبر حدثا سياسيا من الطراز الأول. فهو الرئيس النقابي الذي أعطى لكل دول المنطقة أملا في تغيير الأوضاع بعد أن نجح خلال مدة رئاسته في اخراج البرازيل من أزمته الاقتصادية والمالية وتنمية قدراته الذاتية ليصبح إحدى ركائز الدول النامية وعملاقا في منطقته. بعد أن برأته المحكمة العليا البرازيلية في قضية الفساد، وبعد أن قضى 580 يوما في السجن، يرجع لولا من أجل «إعادة إرساء الديمقراطية» حسب قوله و «مقاومة النظام التسلطي والكراهية والعنف والتمييز العنصري والإقصاء» وهي جملة المسائل التي يعاني منها البرازيل في عهد الرئيس جايير بلسونارو الذي توخى سياسات شعبوية خلفت 500 ألف قتيل من جراء جائحة كورونا والتي جعلت من البرازيل ثاني بلد في العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، من حيث عدد القتلى بفيروس كورونا.
المرشح لولا دا سلفا، الذي تعتبره بلدان أمريكيا اللاتينية «زعيما تاريخيا» وتستقبله بحفاوة شعبية منقطعة النظير، يريد استفاقة العملاق النائم الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة ومن تضخم مالي وتفشي البطالة لم تشهده البلاد منذ ثمانينات القرن الماضي. ودخل البرازيل في حركية جديدة مع انطلاق الرحلة المكوكية للمرشح لولا دا سيلفا في كل ولايات البلاد لحشد الدعم الجماهيري. لكن داعمي النظام الليبرالي بقيادة جايير بلسونارو أعدوا العدة لمقاومة المد الشعبي الذي يسجله لولا في كل تنقلاته حاملا معه أمل التغيير.
تحديات مستقبلية
تبقى أمام بلدان أمريكا اللاتينية تحديات كبيرة يتمثل أولها في الخروج من أزمة كورونا ومخلفاتها الاقتصادية والاجتماعية. ويشكل البرازيل أهم حلقة في هذا الصراع. لكن الحكومات الحالية التي يطغى عليها اليسار السياسي تواجه صعوبات لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بسبب عدم تحكمها في النسيج الاقتصادي الذي يبقى في يد المستثمرين الليبراليين الذين لا يشاطرون الحكومات نفس التوجه. من ناحية أخرى التوجهات التنموية لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار التحول الإيكولوجي الذي يتطلب إعادة صياغة المنهج التنموي. وذلك لا يمكن تحقيقه بدون مشاركة رجال الأعمال والمستثمرين الكبار في الداخل والخارج. وهو ما يشكل تحديا حقيقيا للتنظيمات السياسية اليسارية التي لا تزال تتعامل مع الشأن الاقتصادي بمواقف إيديولوجية بعدية عن البراغماتية اللازمة لتغيير النظم الاقتصادية.
التحدي الثاني المعلن أعلن عنه لولا دا سيلفا في آخر خطاب له عندما أفصح عن نيته إرساء عملة لاتينية مشتركة بين دول القارة تكون، على غرار عملة اليورو، سندا لحماية اقتصادات البلدان المشاركة فيها. وهو مشروع يحمله لولا لا فقط للبرازيل، بل لكل دول أمريكا اللاتينية. ويعتبر هذا المشروع بادئة لتشكيل سوق مشتركة وفضاء اقتصادي وسياسي يجمع جل البلدان حول مشروع اندماجي يجعل من القارة لاعبا أساسيا في العلاقات الدولية.
لكن هذا المقترح سوف يجد أمامه عقبة مهمة تتمثل في منظمة الدول الأمريكية، ومقرها واشنطن، التي تسهر أساسا على حماية المصالح الأمريكية في المنطقة. وربما اعلان نيكاراغوا في شهر أفريل الماضي الانسحاب من المنظمة بسبب التنديد بانتخاب الرئيس أورتيغا وبسجن كل المرشحين ضده للرئاسة سوف يفتح بابا لإعادة النظر في علاقة بلدان أمريكا اللاتينية بالولايات المتحدة الأمريكية والبحث عن توازنات جديدة تسهل تمرير سياسات اجتماعية مع الحفاظ على النهج الليبرالي الذي تدعمه واشنطن.
تحولات ديمقراطية مهمة في بلدان أمريكا الجنوبية: صحوة اليسار في مواجهة النفوذ الأمريكي
- بقلم زين العابدين بن حمدة
- 09:51 16/05/2022
- 1465 عدد المشاهدات
دخلت كولومبيا هذا الشهر معركة الانتخابات الرئاسية المبرمجة ليوم 29 ماي بحظ وافر للمرشح اليساري غوستافو بيترو الذي تعطيه استطلاعات الرأي