تداعيات اجتياح أوكرانيا ورهانات إعادة صياغة العلاقات الدولية

يعتبر اجتياح روسيا لأراضي جمهورية أوكرانيا منعرجا تاريخيا في العلاقات الدولية لأنه يدخل أوروبا في مساحة حرب بين الدول بعد 80 سنة من العلاقات السلمية بين الشرق والغرب

باستثناء فترة الحرب على صربيا، ويؤكد على عدم استعداد البلدان الأوروبية الغربية لخوض حرب في فضائها الطبيعي. ولئن كانت العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا تهدف إلى ضمها وتغيير قيادتها، إلا أن الرد الأمريكي كان بعدم التدخل العسكري وبالاقتصار على فرض عقوبات اقتصادية على الجمهورية الفدرالية الروسية من جهة والتذبذب الأوروبي كذلك «النداء الإنساني» للأمين العام للأمم المتحدة من جهة أخرى،كل ذلك يطرح جملة من الأسئلة التي تهم مستقبل العلاقات الدولية والنظام العالمي الجديد ثلاثين سنة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي.
سوف تسود الحرب مسرح الأحداث في أوكرانيا وروسيا ودول الحلف الأطلسي في أوروبا في الأيام والأشهر القادمة ويبدو، من المواقف الدولية الحالية، أن القوات العسكرية الروسية سوف تنجح في بسط يدها على أوكرانيا لتحقيق السيناريو الذي كتبه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عدة سنوات خصصها لإعادة هيكلة القدرة العسكرية الروسية وتكوين ترسانة ردع نووي قادرة على ضرب خصومه مباشرة مع تشكيل جيش قوي لخوض عمليات ميدانية في الفضاء الروسي وفي الشرق الأوسط وفي إفريقيا عبر مليشيات «فاغنار» واليوم في قلب أوروبا.
تقهقر النفوذ الأمريكي
ويتمثل المعطى الجديد في العلاقات الدولية في عجز الولايات المتحدة الأمريكية، كأول قوة عسكرية في العالم، في فرض نظام دولي جديد تحت زعامتها، بعد انهيار الإتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة. وذلك بعد ان أظهرت غطرستها في عدة مناسبات، وخاصة تجاه روسيا والصين باعتبار أن واشنطن تعتبر انهيار الإتحاد السوفييتي «انتصارا» لدول «العالم الحر» في حين كان انهزاما تاريخيا للنظام الشيوعي الذي انهار دون حرب. وكانت القوات الأمريكية ومنظمة الحلف الأطلسي قد شنت حروبا متتالية في العراق (1991) وصربيا (1993) وأفغانستان (2002) إثر هجمات 11 سبتمبر ثم في العراق مجددا (2003). وتدخلت عسكريا في أحداث «الربيع العربي» (2011) بمساهمتها في الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي في ليبيا وبمشاركتها في الحرب على سوريا واليمن وقيادتها لتحالف دولي «ضد الإرهاب» والذي استهدف منطقة الشرق الأوسط مجسدة بكل وضوح منطق الحرب واستخدام القوة على الدول الضعيفة كاستراتيجية الهيمنة الجديدة.
في كل هذه الحروب المعلنة لم تحقق الولايات المتحدة الأمريكية انتصارا عسكرياحاسما ونهائيا يجعلها تلعب الدور الأول في صياغة نظام عالمي جديد. بل خرجت القوات الأمريكية «غير منتصرة» من البلدان المستهدفة تاركة وراءها الدمار وانحلال البلدان المستهدفة. كذلك الشأن بالنسبة للحروب السابقة التي خاضتها بعد الحرب العالمية الثانية في كوريا الشمالية في خمسينيات القرن الماضي وفي فيتنام والتي انتهت جميعها بفوز عسكري امريكي وهزيمة استراتيجية أجبرتها على الانسحاب. وقد فتحت هذه الحروب الباب أمام القوى العظمى الممثلة في مجلس الأمن الدولي، وغيرها من البلدان، لتدخل في سباق تسلح متعدد الأوجه، بما فيه السلاح النووي،من أجل إرساء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يضمن السلم الدولية في إطار قوة الردع النووية.
وكان من المفروض أن تتوصل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في أوروبا بعد سقوط الإتحاد السوفييتي إلى الهيمنة على العالم عبر نظام العولمة الذي جعل من التبادل الاقتصادي والتجاري نظاما جديدا سلميا للعلاقات الدولية. ولئن نجح هذا النظام في كسر حواجز الحدود وقيود الجمارك لإرساء الليبرالية كنظام عالمي يخدم المصالح الأمريكية والأوروبية في الأساس، الا انه فتح نافذة أمام باقي الدول أفرزت ظهور عمالقة جدد كالصين والهند وروسيا كرست ضرورة إرساء نظام متعدد الأقطاب في إطار التنافس الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري.ويتجلى تقهقر النفوذ الأمريكي في صورتين حديثتين الأولى في أفغانستان صيف 2021 مع الانسحاب الفوضوي للقوات الأمريكية والأوروبية والثانية اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا دون تحرك أي جندي غربي.
صعود روسيا والصين
ساهم نظام العولمة المبني على التنافس الاقتصادي والذي حل محل الحرب الباردة بصورة فعالة في تطوير القدرات الصناعية والتكنولوجية لعدة بلدان في طليعتها الصين وروسيا. ففي حين أصبحت الصين بفضل انفتاحها على نظام السوق أحد أقطاب الاقتصادات العالمية في أقل من 30 سنة، شهدت الصناعات العسكرية الروسية تطورا مذهلا في عشريتين سمحت لها بتطوير أسلحة نووية من الجيل الجديد قادرة على ردع أي قوة أخرى. وتجسد ذلك في المناورات الأخيرة في بلاروسيا حيث أطلق الجيش الروسي صاروخا عابرا للقارات حطم في الفضاء قمرا اصطناعيا روسيا أمام أنظار خبراء واشنطن وأوروبا.
وقد جسد استعراض عضلات روسيا في قلب أوروبا بعد أن كشرت على أنيابها في سوريا وفي بعض الدول الإفريقية القدرات العسكرية الردعية لدولة لا يفوق ناتجها العام الناتج العام للمملكة الإسبانية. لكنها برهنت على أنها قوة عسكرية رادعة لا بد لباقي القوى أن تراعي مطالبها في الأمن القومي أي، في قضية الحال، ألا تنظم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي. وأمام تعنت الولايات المتحدة في رفض الحل الروسي المقترح لضمان السلم في أوروبا دخلت العلاقات في منطق القوة التي عرف بوتين توظيفها لصالحه.
في المقابل أصبحت الصين، بعد أن استقطبت مدة ثلاثة عقود جل الصناعات الأمريكية والأوروبية المنتجة على أراضيها بأسعار متدنية، عملاقا اقتصاديا يتصدر كل الميادين ويعمل على إرساء نظامه التجاري عبر برنامج «طريق الحرير الجديدة» الرامي إلى نسج شبكة اقتصادية مترابطة مع الاقتصاد الصيني تعطيه متنفسا وتساهم في تطويره. ولم تقتصر الصين على الاقتصاد، بل طورت قدراتها الذاتية النووية والعسكرية التقليدية من أجل منافسة الولايات المتحدة الأمريكية وخلق توازن للقوى على المستوى الدولي. وأصبحت تؤسس لفضاء صيني مستقل في صناعة العتاد العسكري بكل أشكاله كذلك في غزو الفضاء والأقمار الصناعية والاتصالات التكنولوجية. لكن الفكر الإمبريالي للولايات المتحدة لا زال يحرك كل استراتيجياتها على المستوى الدولي ولو أنها ليست قادرة بمفردها – وبعيدا عن استخدام السلاح النووي – على فرض أجنداتها كما كان الحال في القرن العشرين.
منطق القوة في العلاقات الدولية
وتشير الأزمة الأوكرانية اليوم إلى أن العلاقات الدولية تتمحور حول قوتين الأولى عسكرية والثانية اقتصادية. وهما وجهان لعملة واحدة تستخدمها القوى العظمى للهيمنة على العالم والتحكم في فضاءات اقتصادية وتجارية لخدمة مصالحها في شتى أنحاء العالم. وهو ما نراه يوميا في مناطق عدة في افريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية. اليوم تمحورت في أوروبا. التدخلات العسكرية للقوى العظمى في العقود الماضية في منطقتي الشرق الأوسط وافريقيا من أجل التحكم في موارد النفط والغاز واليورانيوم بالأساس، وكذلك منذ سنوات في الأتربة النادرة التي تستخدم لتطوير القدرات الصناعية والتكنولوجية.
ذلك ما فتح مجالا للتنافس السلمي وغير السلمي في تلك المناطق. ومن ذلك التدخل العسكري الفرنسي في افريقيا تحت غطاء «الحرب على الحركات الجهادية» وقيادة الولايات المتحدة للتحالف الدولي ضد الإرهاب في الشرق الأوسط. كل هذه العمليات جعلت القوى الأخرى تتحرك عسكريا. وهو ما أصبح واضحا في القفزة النوعية العسكرية للنظام الإيراني الذي طور قدراته البحرية والجوية – وهو يطمح الى إتمام مشروعه للسلاح النووي –وتطوير كوريا الشمالية قدراتها العسكرية كذلك الهند، ودخول روسيا عسكريا لمناصرة النظام السوري والتمتع بقاعدة عسكرية نووية في طرطوس وأخرى جوية في اللاذقية. كل هذه العمليات تنبني على منطق القوة في العلاقات الدولية.
الرد المالي والاقتصادي المزمع اتباعه من قبل أوروبا والولايات المتحدة وباقي حلفائها يهدف إلى اضعاف روسيا وارغامها على قبول «السلم الأمريكية» في أوروبا. لكن موقف موسكو وطريقة تنفيذ العمليات العسكرية تشير إلى أن لها قدرات أخرى يمكن أن تستخدمها ضد خصومها وهي أنابيب الغاز والنفط الموجودة فوق التراب الأوكراني والتي تزود دول الإتحاد الأوروبي بنسبة 40% من استهلاكها. وهو معطى اقتصادي يمكن أن يهز السياسات الأوروبية التي، بحكم النظام الديمقراطي الذي يحكمها، لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار الرأي العام الأوروبي وقرار الناخبين. أما روسيا فنظامها قيصري لا يهتم بالرأي العام الداخلي والخارجي. وهو، حسب ما هو واضح لجميع الفاعلين في أزمة أوكرانيا يرجع إلى أهواء رجل واحد. الأشهر، وسوف تظهر السنوات القادمة، كانت للعقوبات الاقتصادية قوة تفوق قوة السلاح في العلاقات الدولية. أما ما يتعلق بالصين، العملاق الآخر، فتلك قصة أخرى لم تنشر صفحاتها بعد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115