خطاب الرئيس ماكرون جاء ليوضح الأسس التي بدأ في تطبيقها منذ انتخابه والمعالم التي وجب إتباعها على أساس المبادئ التي رسمها للعمل الدبلوماسي الفرنسي. ولخصها ماكرون في ثلاثة مبادئ : دعم أمن الفرنسيين، ضمان استقلالية القرار الفرنسي وتثبيت نفاذها في عالم أصبح يحتوي على أقطاب متعددة تتحرك في نطاق اقتصاد معولم وجب تقنينه. هذه الثوابت الجديدة تدخل الدبلوماسية الفرنسية في عمل متعدد الأوجه يأخذ بعين الإعتبار الأولويات الفرنسية في هذه المسائل الثلاث.
إعلاء صوت فرنسا
يعتبر ماكرون أن أساس تحرك الدبلوماسية الفرنسية يرتكز على إعلاء صوت فرنسا وتلميع صورتها في العالم معتبرا أن «وزن فرنسا كقوة نووية» يجعلها تعمل مع المنظمات العالمية و باقي الدول على أساس المصالح المشتركة. و أكد على فكرة «أن تتحرك فرنسا في العالم وألا تكون رهينة»، بل أن «تمارس استقلاليتها في إطار سيادة أوروبا».
بالنسبة له العمل الدبلوماسي لا بد أن يأخذ بعين الإعتبار الجهد العسكري الفرنسي لضمان الأمن والسلام في العالم و أن يركز دبلوماسية اقتصادية تكمل البعد الأمني. وأكد كذلك على إشعاع فرنسا في العالم عبر دعم شبكة المؤسسات الثقافية الفرنسية، التي اعتبرها استثناء في العالم، وتنمية الفرنكوفونية كإطار لدعم اللغة الفرنسية التي ينطق بها 100 مليون شخص وفتح المجال للبحث العلمي عبر تنظيم «كامبوس فرانس» لاستقطاب الطلبة الفرنكوفونيين، و كذلك دعم السياحة نحو فرنسا مع هدف أن تسجل 100 مليون سائح عام 2020.
أولوية مقاومة الإرهاب
لأول مرة منذ قراره خوض المعركة الرئاسية يعبر إيمانويل ماكرون بوضوح عن نيته مقاومة « ارهاب المتشددين الاسلاميين» كأولوية قصوى في سياسته الداخلية والخارجية تتعلق مباشرة بضمان أمن الفرنسيين الذين هم عرضة منذ 2015 لهجمات إرهابية من قبل تنظيم داعش الإرهابي شارك فيها إرهابيون حاملون الجنسية الفرنسية. وقال ماكرون: «داعش هو عدونا». واعتبر أن مقاومة الإرهاب شأن جماعي يجمع كل الدول المؤمنة بقيم الجمهورية وحقوق الإنسان والتضامن بين الشعوب. وتهدف في الأساس إلى بسط حالة من الاستقرار الجيو سياسي تمكن من تنمية الاقتصاد وحل المسائل الاجتماعية العالقة وحماية البيئة والمحيط لفائدة الأجيال القادمة.
وأكد بوضوح أن سياسة مقاومة الإرهاب الإسلامي لا تخلط بين الإرهابيين الإسلاميين والمسلمين ومن بينهم المقيمون في البلدان الغربية. وحذر من تفشي ظاهرة «الخوف من الإسلام» معتبرا أنه «لا يجب الخلط بين الإسلام والإسلاموية». وإن قام، لأول مرة، بتوضيح هذا الفرق الذي يجعل من الإسلام السياسي، في نظره ، المنبت الأساسي للإرهاب ومرجعيته الفكرية، فإن الرئيس الفرنسي اكتفى بعرض للمبادئ العامة دون الخوض في الإشكاليات القائمة في فرنسا وفي أوروبا في خصوص العلاقة بين الحركات الإسلامية والجماعات الإرهابية وبث ثقافة الجهاد عبر الجمعيات والمساجد وتمويل الإسلام السياسي في فرنسا وباقي الدول الأوروبية واعتناق الشباب الفكر التكفيري الحاضن للجماعات الإرهابية.
على المستوى الدبلوماسي، أكد ماكرون للسفراء الحاضرين أن حل الأزمة الليبية، بعد القضاء على «داعش» الارهابي في سوريا والعراق، هو ركيزة للعمل على تصفية الارهاب التكفيري. واعتبر أن ذلك يمر عبر المصالحة بين الليبيين التي ساهمت فيها فرنسا من خلال لقاء باريس بين المشير خليفة حفتر ورئيس الوزراء فايز السراج. وهو حريص على تطبيق الاتفاق المبرم بمساعدة المبعوث الأممي غسان سلامة. وقال ماكرون إنه حريص على ضمان سلامة دول الجوار وفي مقدمتها تونس. وأعلن عن زيارة مقبلة لوزير خارجية فرنسا جون إيف لو دريان لدراسة الوسائل الكفيلة بالقضاء على ملاذ الإرهابيين في ليبيا وجنوب الجزائر ومنطقة الساحل الإفريقي.
العمل على حل سلمي للأزمات
قام ماكرون في خطابه باستعراض جل مناطق الأزمات في العالم وفي مقدمتها العراق و سوريا وليبيا ومنطقة الساحل الإفريقي وأوكرانيا وكوريا الشمالية وفنزويلا وفلسطين مؤكدا موقف فرنسا الداعي إلى الشروع في حل سياسي للأزمات وإنهاء حالة الحرب مع مقاومة الإرهاب. وأكد، خلافا لسياسة سابقه فرنسوا هولاند، على العمل على «إعادة استقرار سوريا». وهو عمل جماعي أصبح ممكنا بعد أن رمم ماكرون علاقة فرنسا مع روسيا وربط مسالك تعاون مع الرئيس الأمريكي الجديد. وتعتزم فرنسا في هذا الصدد، بمساندة روسيا و الولايات المتحدة ودون حضورهما، تنظيم لقاء مباشر حول القضية السورية خلال شهر سبتمبر تشارك فيه كل الأطراف في الشرق الأوسط دون استثناء في إطار تقدم المحادثات في أستانا. وهو تجسيم للتموقع الفرنسي الجديد الذي يطرح نفسه كوسيط سلام بدعم من القوى العظمى الأخرى خاصة أن الرئيس الفرنسي يحضى بصورة غير ملطخة و ليس لها سوابق سياسية تمثل إشكالا في المفاوضات
وأعلن أن فرنسا تريد العمل كوسيط في أزمة الخليج بين المملكة السعودية ودولة قطر. وأنه يرغب في «الحديث مع جميع الأطراف» من أجل استقرار المنطقة و لتفادي فتح مجال لصراع جديد في المنطقة. لكنه أكد أن مسألة «الشفافية في تمويل الإرهاب» تبقى أساسية لا بد من أخذها بالإعتبار. وهو موقف يرضي الجانب السعودي والأمريكي ويحمي الجانب القطري الذي يتمتع بتسهيلات سياسية وجبائية كبيرة في فرنسا. وكرر في النهاية مبدأ فرنسا الداعي إلى «حل الدولتين» في الشرق الأوسط تتمكن من خلاله إسرائيل وفلسطين من العيش في سلام و في حدود آمنة وتكون القدس عاصمة للدولتين. لكنه لم يعلن عن أي مبادرة أحادية الجانب، خلافا لفرنسوا هولاند، و اقتصر على دعم جهود الأمم المتحدة.
رهانات أزمة الهجرة
و تعرض إيمانويل ماكرون لأزمة الهجرة و اللاجئين معتبرا أنه يجب الفصل بين اللاجئين الذين وجب احتضانهم و المهاجرين الاقتصاديين «مع احترام حياة الجميع». وأكد على التمييز بين «الحقوق الوطنية» المتعلقة بالمهاجرين و «الحقوق الدولية» المرتبطة باللاجئين. جاء خطاب ماكرون يوما بعد قمة باريس حول مسالك الهجرة في إفريقيا الذي شاركت فيه، على مستوى القمة، فرنسا وألمانيا وإيطاليا واسبانيا والإتحاد الأوروبي وكذلك التشاد و النيجر وليبيا. وكانت مناسبة ذكر بها ماكرون لتأكيد فكرة «فرز المهاجرين» في منطلق رحلتهم في التشاد و النيجر قبل وصولهم التراب الليبي. ونوه ماكرون بفكرة أن الأمن مرتبط بالتنمية. لذلك قرر تعيين سفير خاص للهجرة يعمل على ربط العلاقات مع الإتحاد الأوروبي والوحدة الإفريقية من أجل إدارة موجات الهجرة التي «ليس لها حق اللجوء». وأعلن عن زيارة في الأشهر القادمة لواغادوغو لتنفيذ إستراتيجية تشمل منطقة الساحل وشمال إفريقيا و تهدف لصد موجات الهجرة مع تنمية منطقة شمال إفريقيا ودول الساحل. وقرر في هذا الصدد إنشاء مجلس رئاسي لإفريقيا مفتوح على الناشطين في المجتمع المدني يعوض «المسالك الفرنسية الإفريقية» القديمة. ومن مشمولات المجلس تقديم مقترحات نابعة من بلدان المنطقة و إعطاء آراء في الخطابات التي يلقيها ماكرون خلال زيارته للبلدان الإفريقية.
إعادة صياغة المشروع الأوروبي
الملف الأوروبي كان من ضمن المواضيع التي ركز عليها ماكرون. واعتبر أنه من الضروري الشروع في إعادة هيكلة المشروع الأوروبي بعد الانتخابات الألمانية. وأعلن عن تقديمه مشروعا في 10 مبادئ حول الإتحاد الأوروبي يطرح «طموحات جديدة» و لا يتهرب من المشاكل العالقة. وهو يعتقد أن العمل على ضمان أمن و حرية و رفاه الأوروبيين لا بد أن يمر عبر اعتبار أن «الشعوب الأوروبية ذات سيادة» و أن استشارتها أمر ضروري و خاصة الشباب الذين هم مستقبل أوروبا. وركز على فكرة أن المشروع الأوروبي لا بد أن يفضي إلى تشكيل قوة عسكرية واقتصادية يكون لها وزن في العالم وأن نظام العولمة أصبح يحتاج إلى إرساء «قواعد مشتركة» تنظمه كفضاء للجميع يسمح بالتنمية والتضامن ويفضي إلى إقرار السلام.
مشروع دبلوماسي فيه طموح كبير يهدف إلى استرجاع فرنسا ريادتها في أوروبا والعالم بعد أن تقهقر دورها في العقود الماضية. لكن لا بد لكل مشروع ناجح أن تهيأ له الأرضية الحاضنة والتي تتمثل في القوة الاقتصادية و الصناعية والتجارية والتي هي الرهان الحقيقي للرئيس الفرنسي.