و لم تتأخر الصين في إرسال باخرة حربية و طائرات مقاتلة لمنع الباخرة الأمريكية من دخول الشريط البحري الصيني. وهي ثاني عملية اختراق تقوم بها البحرية الأمريكية في بحر الصين لفرض مبدأ « حرية الملاحة» بعد أن قامت الباخرة «يو أس أس دوي» بدخول المياه الصينية قرب جزيرة «ميستشيف» في شهر ماي الماضي متسببة في أزمة دبلوماسية عبرت خلالها الصين عن غضبها لعملية «انتهاك حدودها» من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. و كانت القوات الجوية الصينية، في مناسبتين في فيفري وماي 2017، قد اعترضت طريق طائرات مراقبة أمريكية متخصصة في البحث على المفاعلات النووية قرب سواحل كوريا الشمالية متسببة في غضب البنتاغون.
وإن تعلقت هذه «المناوشات» بالأزمة الكورية الشمالية فإنها تخفي، في الحقيقة، قلق الولايات المتحدة الأمريكية ، والبنتاغون بالخصوص، من مشاريع التسليح الصينية المتمثلة في تصنيع آليات حربية متطورة وبعث مطارات وقواعد عسكرية في «جزر اصطناعية» أرستها الصين في البحر المحيطة بترابها و المتنازع في شأنها مع الدول الأسيوية المجاورة. و تخشى الولايات المتحدة أن تبسط الصين سلطتها المطلقة على أحد أهم الممرات البحرية للتجارة العالمية.
نظام تسليح متطور
استفاقة الصين هذه السنة هي نتيجة الإستراتيجية الصناعية التي بدأتها في تسعينيات القرن الماضي و التي مكنتها من صنع أول ناقلة طائرات حربية من صنع صيني بحمولة 50 الف طن. و قد تم تدشينها أواخر شهر أفريل 2017. وشرعت الصين في صنع ناقلة ثانية متطورة ليشمل أسطولها 3 ناقلات مع بداية 2018. و لكن هذا التقدم الملحوظ في امتلاك التكنولوجيا لا يسمح للصين بتهديد القدرات الأمريكية. لكن في المقابل يمكنها من فرض وجودها كإحدى القوى الإقليمية في محيطها الطبيعي.
ويشمل البرنامج العسكري الصيني أشغال متطورة في صنع الأسلحة الخفيفة والعتاد العسكري و الطائرات مما يمنحها على مدى السنوات القادمة قدرات متجددة وحديثة تمكن قواتها العسكرية من فرض وجودها أمام القوى العظمى الأخرى. في المقابل، كل تصريحات القادة الصينيين تركز على تدعيم «السلم والتعاون والإبتعاد عن خلق المشاكل». وهي سياسة تمنح الصين مساحة تحرك سلسة لتثبيت إستراتيجيتها الجديدة.
منافسة قوية و متجددة
عملت الصين بدون البحث عن الأضواء على إرساء علاقات اقتصادية متطورة مع جملة من الدول في آسيا و أوروبا و إفريقيا مما جعلها تتقدم على الولايات المتحدة الأمريكية التي تبسط نفوذها العسكري عبر اتفاقات ثنائية مع دول في نفس الفضاء دون أن يكون لها تواجد اقنصادي هام. أما الصين فحرصت على تطوير قدراتها التقنية للدخول في منافسة مع الصناعات الغربية. من ذلك أنها وظفت برنامجها الفضائي لدعم مشروع صناعة الطائرات. ونجحت في إطلاق أول طائرة مدنية للمسافرين من طراز سي 919 ، ومن صنع صيني، تضاهي طائرة آرباص 320. وسوف تشرع هذه الطائرة في نقل المسافرين عام 2020 داخل الصين مما يمنحها قدرة اقتصادية قوية أمام منافسيها.
من ناحية أخرى لم تمنع القوى الغربية الصين من شراء ميناء «لو بيري» اليوناني ،الذي يعتبر أحد المحطات الهامة التي تكمل شبكة سكك الحديد العابرة للقارات، في استراتيجية تطوير القدرات الصناعية عبر المشاركة في أسهم شركة فينميكانيكا الإيطالية التي تملك أحواض مدينة سان نازار الفرنسية التي تصنع أكبر وأفخم البواخر في العالم. و تدخل هذه الخطوات في إرساء بنية تحتية على المستوى العالمي تدعم مباشرة اتساع رقعة النفوذ الإقتصادي الصيني.
الإشتراك في اقتصاد العولمة
برزت الصين هذه السنة كأحد الأقطاب الفاعلة في اقتصاد العولمة. وتبنى الرئيس شي جي بينغ مبدأ الإقتصاد الحر بين الدول و فتح الحدود أمام المنتجات. وخططت السلطات الصينية منذ سنين إلى إرساء شبكة تواصل مع الأسواق الفاعلة مثل روسيا و أوروبا وإفريقيا. من ذلك أن خصصت الصين مليارات من الدولارات لبناء خط من سكك الحديد عبر صحراء روسيا يربطها بموسكو. وهو الطريق الجديد لتبادل السلع بين الصين و روسيا و الإتحاد الأوروبي. و قامت ألمانيا هذه السنة، انطلاقا من مدينة هامبورغ، بنقل 40 ألف حاوية من الصادرات إلى الصين عبر 12 ألف كلم من سكك الحديد بين هامبورغ و زهانزو. وامتدت التبادلات كذلك لروسيا وبولونيا واسبانيا و هولندا.
واختصت شركة «هواواي» الصينية في بسط شبكة من الألياف البصرية عبر سواحل إفريقيا تجعل من الصين المالك لما يقـــــارب 90 % من الشبكة التي تمكن البلدان الإفريقية من التواصل عبر الأنترنت. وهو موقع استراتيجي يضاف إلى امتلاك 90 % من مناجم البوكسيت الإفريقية و المواد المستخدمة في صنع الترانزيستور. وهي المواد التي تستعمل في تصنيع التكنولوجيا الحديثة و التي يعتبرها الفاعلون في الميدان بالمواد الإستراتيجية للمستقبل. لدعم توجه الصين المعولم قامت باي جين بتنظيم قمة حول «الطرقات الجديدة للحرير» يوم 17 ماي 2017 جمعت 29 رئيس دولة في مقدمتهم فلاديمير بوتين للتفاوض في تنظيم العلاقات الاقتصادية بين الصين ، ثاني قوة اقتصادية في العالم، و دول آسيا وإفريقيا. و تمكنت الصين من توقيع 30 إتفاقية تضمن التبادل التجاري و النمو الاقتصادي على قاعدة الربح للجميع . وخصصت الصين لهذا الملف 103 مليار دولار لدعم الاستثمارات و البنية التحتية لتسهيل عمليات التبادل.
مثل هذا التمشي الاقتصادي يشكل مشكلة للولايات المتحدة الأمريكية لأنه لا يتوخى فرض الحلول بالقوة كما قام و يقوم به الاقتصاد الإمبريالي عبر «فتح» أسواق جديدة بقوة السلاح. أما القوة الناعمة الصينية فهي تتقدم عبر دبلوماسية اقتصادية تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الأطراف المتعاقدة معها و تتأسس على سياسية تشاركية تسمح بتطوير قدرات كل الأطراف. لذلك أصبحت الصين خطرا على النفوذ الأمريكي الذي تآكل منذ سنين بالرغم من محاولة الإدارات الأمريكية المتعاقبة للتمسك بتقدمها في شتى المجالات. أما إدارة ترامب فلم تبلور إلى حد اليوم تصورا واضحا أمام الزحف الصيني الناعم و لا تزال متمسكة، في غياب إستراتيجية واضحة، بالحل العسكري للمشاكل الدولية.