تحديات الولاية الثانية للرئيس ماكرون: انشقاقات في المجتمع وأفق سياسي متقلب

نجح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تحقيق 58،5% من الأصوات للفوز بولاية ثانية على رأس الدولة بعد حملة انتخابية تخللتها

المسائل المتعلقة برئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي منذ غرة جانفي 2022 والحرب الروسية على أوكرانيا منذ 24 فيفري. ولم يدخل ماكرون في الحملة الانتخابية إلا في أول أيام الحملة الرسمية وبعد الدور الأول. لكنه نجح في استقطاب جل الأصوات المعادية لمرشحة الجبهة الوطنية المتطرفة مارين لوبان وحصل على 20 نقطة إضافية مكنته من البقاء في قصر الإليزيه.
تفرض المرحلة الجديدة بعد الإعلان النهائي للنتائج يوم الأربعاء أجندتها على الرئيس. اذ سيقوم الوزير الأول جون كاستاكس، كما تفرضه التقاليد الجمهورية، بتقديم استقالته واستقالة حكومته ليفتح المجال أمام تعيين وزير أول جديد «يهتم أساسا بالتخطيط للتحول الإيكولوجي» كما حدد ذلك الرئيس ماكرون سابقا. ويشرع هكذا الثنائي الجديد على رأس الدول في اختيار الشخصيات التي يطلب منها تولى إدارة السياسات الجديدة للولاية الثانية. هذه المرحلة سوف تكون محددا للوقوف على صدق الوعود التي تقدم بها إيمانويل ماكرون للناخبين خلال حملته القصيرة والتي أشار فيها بوضوح إلى إعطاء مسألة المناخ والتحول الإيكولوجي الصدارة في سياساته المستقبلية. وهي كذلك محدد أساسي للتوجهات العامة في المفاوضات المتعلقة بالانتخابات التشريعية المبرمجة ليومي 12 و19 جوان 2022 بين حزب الرئيس والأحزاب الأخرى.
انشقاقات المشهد الانتخابي
أظهر المشهد الانتخابي الجديد عدة انشقاقات في جسم المجتمع الفرنسي تجسمت أولا في اندثار الأحزاب التقليدية الحاكمة من اليسار الاشتراكي واليمين الجمهوري كذلك من الخضر الذين لم ينجحوا في تحقيق 5% من الأصوات التي تضمن لهم استرجاع تمويلاتهم الانتخابية من ميزانية الدولة. وتبين من النتائج وجود انشقاقات أخرى تعلقت بسن الناخبين حيث ان ثلثي كبار السن التحقوا بماكرون في حين حظيت مارين لوبان بالشغالين الذين هجروا اليسار. وبينت تحليلات مراكز سبر الآراء أن المدن الكبيرة والمتوسطة ساندت الرئيس الحالي في حين ساندت الأوساط الريفية والبعيدة عن المدن وأراضي ما وراء البحار المرشحة مارين لوبان.
ولوحظ أن فصائل اليمين المتطرف الثلاث التابعة لمارين لوبان وإيريك زمور و دوبونهينيان عارضت ترشيح ماكرون. والتحقت بهذه الفصائل كل الأصوات الغاضبة من سياسات ماكرون والمنتقمة منها وهي متأتية من اليمين الجمهوري (25%) وفرنسا الأبية لجون لوك ميلونشون (17%) وقلة من حزب الخضر. وحافظ ماكرون على 98% من الأصوات التي التحقت به عام 2017 وهي العمود الفقري لتمثيليته.
ومع الانشقاقات الحزبية بانت انشقاقات اجتماعية وجغرافية واضحة بين ساكني مراكز النفوذ في باريس والمدن الكبرى وباقي المواطنين بمن فيهم مواطنو جزر ما وراء البحار الذين يشعرون بعزلة وبتدهور حاد لمقدرتهم الشرائية. وهو ما خلف انقسامات في المشهد السياسي بين 4 فصائل أساسية أولها مجموعة العازفين عن التصويت (أكثر من 13 مليون ناخب) والذين فقدوا الثقة في العملية الانتخابية كأداة لتغيير الوضع وتحقيق المطالب. ثم تشكل المشهد السياسي في استقطاب ثلاثي بين حزب إلى الأمام لماكرون والتجمع الوطني لمارين لوبان وحركة الوحدة الشعبية لجون لوك ميلونشون. وخسرت باقي الأحزاب، وحسب نتائج الرئاسية، إمكانية التواجد في الساحة كما كان عليه المشهد من قبل.
ما بعد الرئاسية... التشريعية
سوف تجد كل الأحزاب المشاركة نفسها وهي تتحرك في اتجاه المشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة يوم 12 جوان حسب وزنها الحقيقي. وتبقى أمام الأحزاب عقبات مؤسساتية جديدة تتمثل في ضمان تمويلات الدولة حسب عدد النواب واعتبارا لنتائج الدور الأول من جهة. ومن جهة ثانية الوصول إلى الدور الثاني من الانتخابات التشريعية يحتم الحصول على نسبة 12،5% من عدد المرسمين. وهو أمر يكاد يكون مستحيلا على الأحزاب الحكومية التقليدية (الاشتراكيين والجمهوريين والخضر والشيوعيين) وأحزاب اليمين المتطرف. فهي كلها أمام خيار المشاركة الفردية اليائسة أو الاندماج في الأحزاب الثلاثة التي ضمنت تمثيلية حقيقية في الانتخابات الرئاسية أي حزب ماكرون وحزب ميلونشون وحزب لوبان ولكل منها ثلث الناخبين تقريبا. وهي الأحزاب التي يمكنها تحقيق نسبة 12،5% من الأصوات.
هذا الوضع أدخل «الأحزاب الصغيرة» في منطق التحالفات مع الأحزاب الكبيرة الجديدة مع ضمان تمثيلية حزبية. حزب التجمع الوطني له رصيد انتخابي في ناخبي إيريك زمور ودوبونهينيان. وهم جميعا يمثلون تقريبا 30% من الأصوات في الدور الأول. أما باقي القطبين فهما في سباق لتقاسم أصوات الناخبين اليساريين مع تقدم ملموس لإيمانويل ماكرون الذي يطمح إضافة لذلك للحصول على أصوات اليمين الجمهوري. قراره المعلن إدراج البعد الإيكولوجي كعنصر أساسي في سياساته المستقبلية يخدم التحاق الناخبين الخضر بمشروعه ولو يصعب على الرئيس الحالي تشكيل تحالف حزبي مع حزب الخضر الذي قرر الدخول في مفاوضات مع جون لوك ميلونشون شأنه شأن الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي. الأيام القليلة القادمة سوف تظهر مدى نجاح خطة «التجمع» حول حزب أغلبي للوصول إلى تحقيق أغلبية في البرلمان الجديد.
التقاليد الجمهورية في فرنسا تعطي للرئيس المنتخب أغلبية مريحة في البرلمان الجديد. لكن هذه المرة، وحسب انقسامات المشهد وعمق الكراهية المعلنة والغير مسبوقة لشخص الرئيس،فإنه يصعب على حزب ماكرون أن يحصل بسهولة على أغلبية. لا بد له من تحرك ما، يضمن له أغلبية في البرلمان القادم. البوادر الأولية تشير إلى أنه لن يقوم بتحالفات حزبية، بل سوف يعمل على استقطاب الناخبين من اليساريين والخضر واليمينيين الجمهوريين بوعود سياسيةمدعومة باستقطاب شخصيات مرموقة من صلبها يمكنها أن تعطي «ضمانا» للناخبين. وهوما يتوجه إليه قصر الإليزيه في تشكيل الحكومة الجديدة وتعيين وزير أول يكون نوعا من الضمان للناخبين في التشريعية من ناحية ويسهل كذلك اندثار الأحزاب التقليدية خدمة لمشروع حزب إلى الأمام، المتمركز في وسط المشهد السياسي والرامي إلى لم شمل ناخبي اليمين واليسار.
تحديات الولاية الثانية
تبقى أمام الرئيس ماكرون تحديا تتعلق بمهامه كرئيس دولة ، ولا تدخل في السباق الإنتخابي، وهي المسائل الدولية من حرب في أوكرانيا وإعادة النظر في المشروع الأوروبي والعلاقات الدولية إضافة إلى التوازنات المالية العامة على المستوى الأوروبي ومشاريع التنمية المشتركة. أما على الصعيد الداخلي فإن حجم الانقسامات والتطلعات لدى فئات عديدة من الشعب تطرح تحديات إضافية. أشار جيروم فوركي ، مدير قسم الآراء في مؤسسة «إيفوب»لجريدة لوفيغارو أن أهم القضايا المطروحة ، والتي تعتبر تحديات للحكومة الجديدة، هي بالنسبة للناخبين الصحة (71%)، الطاقة الشرائية (68%)، الأمن (60%)، التعليم (59%)، الإرهاب(57%)، البطالة (49%)، مقاومة الهجرة غير النظامية (47%) والبيئة (44%). وهي المواضيع المحددة لسياسات الحكومة القادمة.
تبقى المسائل المتعلقة بالتضخم والمديونية وإعادة تصنيع البلاد والخوض في المشروع النووي الجديد وضمان موارد الطاقة بعد التخلي عن النفط والغاز الروسي من أولويات السياسات الحكومية. كما أن الناخب ينتظر من إيمانويل ماكرون الوفاء بوعوده فيما يتعلق بتحسين القدرة الشرائية وإصلاح المنظومة الصحية ونظام التقاعد وضمان مرافقة جدية في الانتقال الإيكولوجي على مستوى تحسين المسكن وشراء السيارات الكهربائية والمعدات الحادة من استهلاك الطاقة. وهي كلها تدخل في إطار الاختيارات الخضراء التي نادى بها مجمع «جياك» العلمي الذي يسهر على دراسة التحول المناخي. آخر وأصعب ملف يبقى أمام الرئيس ماكرون هو إعادة صياغة المشروع المؤسساتي الذي ينتظر التنفيذ وهو يتعلق بإعطاء نفوذ أكبر للبرلمان واساء نظام التسويط النسبي. وهو مشروع يدخل في إطار تحضير من سيخلف ماكرون في قيادة الدولة عام 2027.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115