خفايا الأزمة الدبلوماسية بين فرنسا والجزائر

الإجراءات الجزائرية الأخيرة تجاه فرنسا والمتمثلة في استدعاء السفير الجزائري في باريس للتشاور وحظر الأجواء الجزائرية على السلاح الجوي الفرنسي

هي في الحقيقة ردة فعل على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والتي أوردتها جريدة «لوموند» الباريسية.

وكان ماكرون قد التقى مع مجموعة من الشباب الجزائري من أحفاد المجاهدين الجزائريين من جبهة التحرير الذين اختاروا الإقامة في فرنسا وعدد من شباب «الحركيين» وهم الجزائريون الذين التحقوا بالجيش الفرنسي في حربه ضد جيش التحرير وبعض الشباب المنتمين لما يسمى «الأرجل السوداء» وهم الفرنسيون الذين ولدوا في الجزائر في عهد الاستعمار وانتقلوا إلى فرنسا مع دخول الاستقلال حيز التنفيذ عام 1962. واستغل الرئيس ماكرون هذا اللقاء لتقديم انتقادات للنظام الجزائري اعتبرتها الجزائر «تدخلا غير مقبول في الشؤون الداخلية» الجزائرية و»تصريحات غير مسؤولة» من قبل الرئيس الفرنسي.

وكانت الجزائر قد استدعت قبل أسبوع السفير الفرنسي فرنسوا غويات لتقديم «تنديد رسمي للحكومة» بسبب القرار الفرنسي بتخفيض بنسبة 50% عدد تأشيرات السفر لجزائريين جراء عدم تعامل القنصلية الجزائرية إيجابيا مع السلطات الفرنسية وعدم تقديمها لتأشيرات خروج – حسب الأعراف الدبلوماسية بين البلدين – الى الجزائريين المقيمين في فرنسا بصفة غير قانونية والذين أصدرت في شأنهم قرارات ترحيل. وهو نفس القرار الفرنسي الذي شمل تونس والمغرب. ولئن اعتبرت الرباط أن تلك الخط «بلا حجة» مع الإبقاء على اتصالات دبلوماسية غير معلنة فإن الرئيس التونسي قيس سعيد عبر مباشرة للرئيس ماكرون في حوار هاتفي عن «أسفه» للقرار الفرنسي. أما الجزائر فقد اختارت التصعيد في اللهجة الدبلوماسية باستدعاء السفير الفرنسي.

ماكرون: «هل كانت هنالك أمة جزائرية من قبل؟»
في حديثه للشباب الجزائري، اعتبر ماكرون أن السلطات الجزائرية الحالية تنتمي إلى «نظام سياسي وعسكري» استغل «ارث الذاكرة» التي صنعت «تاريخا رسميا أعاد كتابة التاريخ ولم يرتكز على حقائق، بل على كراهية فرنسا». وأضاف الرئيس الفرنسي أن «النظام الجزائري منهك وأن الحراك قد أضعفه» في نفس الوقت الذي أكد فيه أن علاقاته مع الرئيس الجزائري عبد الحميد تبون طيبة. وأضاف ماكرون أنه يرى أن الرئيس الجزائري «رهين نظام قوي جدا».

كلمات «غير دبلوماسية» اعتبرتها السلطات ووسائل الإعلام الجزائرية تعديا على الجزائر. وركزت وسائل الإعلام الجزائرية، وخاصة جريدة الوطن، على فقرة من تدخل الرئيس ماكرون تساءل فيه بصورة انكارية قائلا: «هل كانت هنالك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ هذه هي المسألة» معتبرا أن «هنالك حالات استعمار سابقة» وأنه منبهر «بقدرة تركيا (العثمانية) على محو دورها في الجزائر من الذاكرة والهيمنة التي نفذتها» هناك. وهي العبارات التي لم يقبلها الجانب الجزائري لما فيها من مساس بسيادة الدولة الجزائرية والتشكيك في وجود «أمة جزائرية».

ردود فعل سياسية واستراتيجية
وجاء الرد الجزائري على صعيدين الأول دبلوماسي والثاني استراتيجي. أما الجانب الدبلوماسي فتمحور حول استدعاء السفير الجزائري لدى باريس للتشاور. وهي خطوة مماثلة كانت الجزائر قد قامت بها عام 2020 عند نشر جريدة «لوموند» لمقال حول الحراك في الجزائر صحبة عدد من وسائل الإعلام الفرنسية التي نشرت تسجيلات صوتية وفيديوهات للحراك تندد بالنظام الجزائري. وأخذت بعد ذلك العلاقات مجراها. وصاحب استدعاء السفير بيان رسمي حازم ندد بالموقف الفرنسي واعتبر أنه «دعاية استعمارية» ترتكز على «اعتبارات سطحية ومناوئة في علاقة بإرساء الدولة الوطنية الجزائرية وبتأكيد الهوية الوطنية” وهو موقف راجع لـ«نظرة مهيمنة» طواها التاريخ في العلاقات بين الدول.

على الصعيد الإستراتيجي، قررت الجزائر حظر مجالها الجوي على الطائرات العسكرية الفرنسية التي سمح لها منذ 2013 بدخول الفضاء الجزائري لقصف الحركات الإرهابية المتمركزة شمال مالي. هذا القرار الإستراتيجي يتعلق بالوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي. للتذكير فإن الأزمة مع باريس اندلعت أسبوعا بعد خطاب الوزير الأول المالي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي انتقد فيه باريس قائلا :«فرنسا تخلت عنا ونحن في الجو». وهذا ما يربط الملفين المالي والجزائري حيث أن الجزائر ليس لها نفس التقييم للأزمة المالية. وقد لعبت الجزائر دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة وقد نظمت مؤتمرا في العاصمة الجزائر عام 2015 أسفر إلى توقيع اتفاقية سلام بين المجموعات المقاتلة التابعة للطوارق ومجموعات إثنية أخرى طالبت من الحكومة المركزية صلاحيات إدارية واسعة ودعما ماليا لتنمية شمال البلاد. أما باريس فلم تشارك في المؤتمر، بل عملت على مقاومة كل المجموعات المسلحة مما جعل بعضها ينضم لحركتي القاعدة وداعش. فرض حظر جوي على الطيران العسكري الفرنسي يحد نسبيا من قدراته لكن لا يعيقها. وهو في الأخير ورقة ضغط في حوار الجزائر مع باريس والذي سوف يضفي، كما جرت العادة الدبلوماسية، في الأيام القادمة إلى نوع من التطبيع بين الجانبين.

يد ماكرون الممدودة
في حقيقة الأمر، كان إيمانويل ماكرون سباقا في تقديم «حلول» والقيام بخطوات تجاه الجزائر من أجل طي صفحة الماضي الاستعماري. وكان قد صرح عام 2017 قبل انتخابه رئيسا للدولة خلال زيارة للجزائر أن «الاستعمار جريمة ضد الإنسانية» وتحمل بسبب ذلك انتقادات من مختلف الأحزاب السياسية اليمينية وجمعيات قدماء المحاربين. ثم اعترف وهو رئيس للجمهورية بدور الدولة الفرنسية في التعذيب خلال الفترة الاستعمارية وأخذ إجراءات رمزية في الغرض. وطلب من المؤرخ بنجامين ستورا، المولود في الجزائر والمختص في تاريخ الحرب الجزائرية، بتقديم تقرير من أجل «مصالحة الذاكرتين»، الذاكرة الفرنسية والذاكرة الجزائرية. وراهن على الرئيس عبد المجيد تبون، وهما لم يعايشا فترة الحرب الجزائرية، وذلك من أجل طي صفحة الماضي. لكن حسب تقييم الرئيس الفرنسي فان هذه الاجراءات لم تقابلها إجراءات مماثلة من قبل الجانب الجزائري من أجل مصالحة الذاكرتين.

لكن يبدو أن الرئيس الفرنسي قد مد يد المصالحة يوم الثلاثاء 5 أكتوبر في حديث لراديو «فرانس أنتار» مع الصحفية ليا سلامه حيث أظهر أنه يبحث على تهدئة الوضع مع الجزائر وقال إن علاقاته مع الرئيس تبون طيبة وأنه يشاطره بعض الآراء ويختلف معه في أخرى وهو شيء طبيعي. وقال إن الأزمة سوف تزول وترجع العلاقات إلى ما كانت عليه من قبل . في نفس اللقاء أكد أن الوجود العسكري في مالي كان بطلب من السلطات المالية وأنه سوف يستمر. وأكد أنه «لو لم تتدخل فرنسا في مالي بطلب من السلطات المالية عام 2013 لسقطت البلاد في أيدي الإرهابيين» وأضاف أن الجيش الفرنسي برهن على قدرته على التصدي إلى الحركات الإرهابية وقدم نجاحات في تصفية قياديين بارزين.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115