انتفاضة «بلفاست» تحيي شبح الحرب الأهلية في إيرلندا الشمالية: من مخلفات اتفاق البريكست إلى تغيير موازين القوى

دخل الشارع الأيرلندي الشمالي على امتداد أسبوعين في انتفاضة عنيفة قادها شباب من الجالية البروتستنتية الموالية

لبريطانيا استهدفت أعوان الأمن والمنشآت البلدية والسيارات وخلفت قرابة 90 جريحا في صفوف أعوان الشرطة. انتفاضة الشباب الأيرلندي انطلقت على خلفية دخول اتفاق البريكست مع الإتحاد الأوروبي حيز التنفيذ منذ غرة جانفي 2021 والذي تسبب في تعطيل عجلة استيراد بعض المواد الغذائية الضرورية وفقدانها من الأسواق المحلية. وسرعان ما تحولت إلى مواجهات مع شباب الجالية الكاثوليكية في مدينة بلفاست وضواحيها.
وأمام تفاقم الغضب وانتشار رقعة التظاهر سارع برندان لويس الوزير البريطاني المكلف بأيرلندا الشمالية إلى التنديد بأعمال العنف والتخريب وطالب بالهدوء والكف عنها في حين خلفت الانتفاضة قرابة 90 جريحا في صفوف الشرطة. وأطلق بوريس جونسون الوزير الأول البريطاني نداء للهدوء معتبرا أن «حل الخلافات يمرّ عبر الحوار لا عبر العنف والإجرام». أما الوزير الأول الأيرلندي مايكل مارتن فقد حذر في بيان رسمي من «دوامة» العنف قائلا: «واجبنا بالنسبة لجيل الاتفاق والأجيال القادمة ألا ندخل في دوامة ترجعنا إلى مربع الاغتيالات الطائفية والفتن السياسية». وكانت أيرلندا الشمالية قد دخلت في حرب أهلية لمدة ثلاثة عقود خلفت 3500 قتيلا وختمت باتفاق «الجمعة المباركة» عام 1998 الذي أرسى السلم الاجتماعية بين الطائفتين الكاثوليكية والبروتستنتية.
تداعيات البريكست
بعد مفاوضات دامت 4 سنوات بين بروكسل ولندن أسفر اتفاق البريكست عن الحفاظ على عدم إعادة الحدود بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا وتركيز الجمارك في الموانئ الشمالية للجزيرة لإدارة المبادلات مع أوروبيا. لكن حزب الوحدويين رفض الاتفاق الذي يقضي بتفتيش ومراقبة السلع القادمة من بريطانيا في تلك الموانئ معتبرا أن ذلك يفرض حدودا بين أيرلندا الشمالية والمملكة. وهو ما اعتبره الوحدويون «خيانة» من قبل بوريس جونسون.
ويواصل الطرفان الأوروبي والبريطاني المفاوضات للتوصل إلى حل مرضي للجميع. وشرع في هذا الغرض الوزير البريطاني مايكل غروف ونائب رئيس المفوضية ماروس سيفكوفيتش والوزيرة الأولى لشمال أيرلندا أرلين فوستر (من الحزب الديمقراطي الوحدوي) ونائبتها من حزب شين فاين الجمهوري ميشال أو نيل في التفاوض في مسألة «بروتوكول شمال أيرلندا» لضمان السلم في الجزيرة. وسوف تواصل بروكسل ولندن حلقات من الاتصالات في هذا الغرض لتفادي تفاقم الأزمة.
تضارب المصالح السياسية
يشير اندلاع الانتفاضة إلى هشاشة الوضع السلمي بين الفصائل المتنازعة في إيرلندا الشمالية. فمن ناحية لم يفلح حزب «شين فين» الجمهوري في فرض توحيد الجزيرة بعد أن اعتمد على المقاومة المسلحة، لكنه قبل الدخول في مسار ديمقراطي سلمي نجح من خلاله، بعد المصالحة التاريخية مع الملكة إليزابيث الثانية، في الحصول على أغلبية مكنته من تقاسم الحكم مع خصومه البروتستانت. ومن ناحية أخرى تمسك الوحدويون بارتباطهم مع المملكة رغم قبولهم تقاسم السلطة. لكنهم أقدموا على ترسيخ فكرة عدم قبول الانضمام إلى جمهورية أيرلندا لدى الشباب المولود بعد اتفاق 1998. وانتقدت باقي الأحزاب موقف أرلين فوستر الحاث على رفض اتفاق بريكست في حين صوت أهالي الجزيرة بأغلبية لصالح البقاء في الإتحاد.
ونادى حزب «شين فين» الجمهوري بعد الاستفتاء على البريكست بتنظيم استفتاء آخر حول توحيد جزيرة إيرلندا وضم الشمال إلى الجنوب. وتبقى المناورات والمواقف جارية على اختلافها في لندن ودبلين. لندن لا تريد التخلي عن أراضي احتلتها منذ قرن ودبلين التي صوتت بصورة ساحقة (93%) لفائدة أوروبا تريد توحيد الجمهورية بطرق ديمقراطية أي بالاعتماد على الانتخابات التي تمكن الشعب من قول رأيه في تقرير مصيره.
هل من آفاق للحل؟
بعدم مرور قرن على ضمّ شمال أيرلندا لايزال الجمهوريون يحلمون بتوحيد الجزيرة التي تم تقسيمها عام 1922 بين جمهورية في الجنوب و 6 مقاطعات في الشمال ضمت للملكة المتحدة. ولم تتمكن الحرب التي قادها الجيش الجمهوري الأيرلندي والنضال السياسي لحزب «شين فين» من توحيد الجزيرة. لكن يبدو أن تطبيق بنود البريكست سوف يسرع في مسار الوحدة بين الشمال والجنوب خاصة أن الاتفاق أبقى على الوحدة الترابية و نزع الحدود بين الشمال والجنوب. إضافة لذلك نجح حزب «شين فين» في الحصول على 24،5% من الأصوات في الانتخابات التشريعية الأخيرة مما يجعله في مقدمة الأحزاب المشاركة. وجوده في الحكومة أعطاه مصداقية جديدة واشعاعا متواصلا لقادته يمكن أن يفتح الباب أمام سيطرة على المشهد السياسي بعد البريكست.
حزب «شين فين»، من ناحية أخرى، هو الحزب الوحيد الذي له تواجد سياسي في الشمال والجنوب. فهو يتقاسم الحكم في الشمال وزعيمته ماري لو ماك دونالد في جمهورية أيرلندا أصبحت على مشارف الحكم. سيناريو دخولها السلطة في أيرلندا الجنوبية يفتح مجالا جديدا نحو توحيد الجزيرة في إطار جمهوري. وهو السيناريو المحتمل الذي تخشاه لندن بعد أن وعد بوريس جونسون الوحدويين بالتمتع «بأحسن ما في بريطانيا وأيرلندا» في صورة البقاء في المملكة. لكن الحل يمكن أن يأتي من التقدم الديمغرافي في الجالية الكاثوليكية التي في أقل من جيل سوف تتمتع بأغلبية عددية في سكان شمال أيرلندا من شأنها أن تغير موازين القوى وتفرض سياسة الأمر الواقع.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115