بعد ولادة قيصرية ... «ميثاق القيم الجمهورية» يرى النور: هل ينجح المسلمون في لـم شملهم في فرنسا ؟

بعد 9 أسابيع من التفاوض والأخذ والرد بين الحكومة الفرنسية والمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ،نجح الطرفان في إقرار «ميثاق المبادئ الجمهورية»

الذي سوف يعتمد لبعث المجلس الوطني للأئمة في فرنسا. وكان محمد موسوي رئيس المجلس قد أدلى بشهادته أمام اللجنة الخاصة البرلمانية التي تناقش مشروع قانون يتعلق بتأكيد «احترام قيم الجمهورية» أن المجلس الإسلامي توصل منذ شهر نوفمبر الماضي إلى «اعتماد» نص «ميثاق المبادئ الجمهورية» الذي طالب به الرئيس إيمانويل ماكرون تمهيدا لتشكيل «المجلس الوطني للأئمة» الجديد. لكن أمام رفض النص الذي أعتبر تراجعا عن ما كان عليه المقترح الأولي دخلت كل الجهات في تفاوض أخير من أجل تعديل المسودة المقترحة.
وكان ماكرون قد طالب، في إطار التمشي اللائكي الذي يفصل بين الدين والدولة، إثر عملية قتل الأستاذ صامويل باتي، من ممثلي الديانة الإسلامية في فرنسا الشروع في العمل على إعادة هيكلة الإسلام الفرنسي بتحضير نص ميثاق، بالتعاون المباشر مع وزير الداخلية جيرالد دارمنان، يؤكد على احترام الإمام لمبادئ الجمهورية الفرنسية ويكون النص مرجعا لتكوين وتعيين الأئمة في جوامع فرنسا عبر بطاقة مهنية ويكون على شاكلة عمادة المحامين.وتم الشروع في نقاش مسودة شاركت فيها بعض الأيدي من الطرفين رسمت أساسا «متطلبات» قصر الإيليزي. وكان لمحمد موسوي الدور الأساسي في تجميع ملاحظات 9 فدراليات تكون المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية قبل كتابة النص النهائي.
طلب الرئاسة الفرنسية ميثاق يتمحور حول «قبول قيم الجمهورية وتوضيح أن الإسلام في فرنسا هو دين وليس حركة سياسية والتنصيص على إنهاء التدخل الخارجي أو الانتماء إلى الخارج». في المقابل قدمت الحكومة للبرلمان يوم الإثنين نص قانون يتعلق بالأمن الشامل ويهدف إلى محاصرة «الانفصال» ونصا ثانيا حول تأكيد المبادئ الجمهورية والنظام اللائكي. عمليات مختلفة تهدف جميعها إلى مقاومة التطرف الديني الإسلامي وعدم اللجوء إلى العنف. ويسهر وزير الداخلية شخصيا على هذا الملف وهو الذي أشهر الحرب منذ أسابيع على «الإسلام السياسي»، الذي يعتبره «الخطر القاتل للجمهورية»،وقرر إغلاق أكثر من 80 دارا للعبادة وجمعيات متهمة بالعمل السياسي والإيديولوجي المتطرف في مقدمتها مجمع مقاومة كراهية الإسلام القريب من حركة الإخوان المسلمين.وكان مجلس الشيوخ الفرنسي قد دق ناقوس الخطر في تقرير نشره خلال فترة الصيف يشير إلى تغلغل الراديكالية الإسلامية في المدارس والجمعيات ومؤسسات الدولة مثل الشرطة والجيش و البلديات وغيرها من المؤسسات.
انسحاب جامع باريس الكبير من المشروع
وصاحبت التفاوض عمليات كر وفر بين «الراديكاليين» و»الليبراليين» في صلب المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وكان عميد جامع باريس الكبير شمس الدين حافظ، نائب رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية،قد فجر قنبلة قبل نهاية السنة بانسحابه من مشروع كتابة الميثاق منددا بالدور السلبي لتشكيلات في المجلس تمثل «الإسلام السياسي وخاصة منها الصلة بأنظمة خارجية معادية لفرنسا»التي يتهمها بتعطيل المفاوضات داخل المجلس والاعتراض على بعض البنود الهامة فيه. وإن يأتي هذا الموقف ضمن تصدعات إقليمية تندرج في الخلافات بين الجزائر والمغرب وفي مسألة زعامة الإسلام في فرنسا، فإن جملة الاتهامات تدل على عمق الاختلاف بين جامع باريس الكبير الذي يواكب النهج الرئاسي المطالب بتوطين الإسلام في فرنسا وإدماجه داخل المنظومة اللائكية وباقي المجموعات التابعة من قريب أو بعيد إلى الإسلام السياسي والتي ترفض أن يجبرها الميثاق الجديد على القبول بعلوية القانون والمبادئ الجمهورية.
نقاط الخلاف جعلت عمدة جامع باريس الكبير يعتبر أن هنالك «مشروعين للمجتمع متعارضين تماما» وأن قيمة المشروع هو أنه أظهر المواقف المختلفة لكل الفصائل المشاركة في كتابة نص الميثاق. وعلى أساس هذا الفرق في الرأي والمبادئ قرر الانسحاب وعدم المشاركة. في نفس الوقت واصلت السلطات الفرنسية مساعيها لتقريب وجهات النظر وتحريك الآلة الدبلوماسية تجاه البلدان المعنية بالملف وفي مقدمتها تركيا والجزائر والمغرب التي تزود فرنسا بأكثر من 300 إمام. وعلمت «المغرب» أن جهات إسلامية تونسية، داعمة لحركة «مسلمي فرنسا» التابعة لتنظيم الإخوان المسلمين، تعمل في الكواليس على دفع التفاوض نحو نوع من المقايضة بين قبول المقترح الرسمي الفرنسي مقابل الإقرار، ولو ضمنيا، من قبل فرنسا بالدور الأساسي للإسلاميين في نحت مستقبل منطقة المغرب العربي، وخاصة في ملفي ليبيا وتونس.
نقاط الخلاف
ثلاثة مسائل خلافية كانت وراء انسحاب عمدة جامع باريس الكبير. الأولى تتعلق بحذف فصل من الميثاق أقر جملة من المبادئ أولها تحديد مفهوم «الإسلام السياسي». الفقرة التي تم حذفها من قبل المجلس تقول: «الميثاق يعتبر أن الإسلام السياسي يعني الحركات السياسية أو الإيديولوجية التي تسمى عادة الوهابية، السلفية، أو عقيدة الإخوان المسلمين، وفي العموم كل حركة محلية أو دولية تستخدم الإسلام من أجل فرض عقيدة سياسية وخاصة تلك التي تعتمد نصوصا ترفض الديمقراطية واللائكية والمساواة بين النساء و الرجال و التي تشهر بالمثليين و تنشر كراهية النساء واللاسامية والكراهية الدينية.»
وجاء في الفصل الثاني الذي تم حذفه:«نلتزم بعدم استخدام الإسلام من أجل أجندات سياسية تمليها قوة أجنبية ترفض التعدد في صلب الإسلام وحرية الضمير والديمقراطية والمساواة بين الرجال والنساء وتنشر كراهية المثليين وكراهية النساء والعنصرية واللاسامية. نرفض أن تستعمل دور العبادة لنشر الخطابات السياسية وأن تستورد النزاعات القائمة في مناطق أخرى من العالم.» أما الخلاف الثالث فتمثل في إدراج الإقرار بمبدإ «عنصرية الدولة» الفرنسية في نص مشروع الميثاق. وهي في مجملها خلافات جوهرية اعتبرها العميد كافية للانسحاب من مشروع يسيطر عليه الإسلام السياسي في مكوناته الثلاثة في صلب المجلس: الحركة الملية التركية التي تنشر إسلاما قوميا تركيا وحركة الإخوان المسلمين التابعة لتنظيم «مسلمي فرنسا» ومجموعات «التبليغ» المدعومة من مؤسسات في المملكة العربية السعودية. وجميعها تنتمي إلى الحركات الإسلامية المذكورة في النص الأولي.
تعويم المفاهيم لضمان تمرير الميثاق
وفي خطوة «توافقية» أريد بها إظهار أن المجلس يراعي مطالب السلطة ويتنازل على بعض الطلبات، جاء في النص المقترح من قبل محمد موسوي أن «التنديد بعنصرية الدولة لا ينطبق على الواقع في فرنسا» ما معناه أن التنديد باق في الأصل على ألا يفهم تنديدا بفرنسا. وجاء في النص كذلك «التنديد بختان البنات والزواج القسري وشهادات العذرية».كما «يلتزم الموقعون على النص بألا يعتبروا تغيير الديانة «جريمة» وألا يشهروا بمن يغير ديانته». وهو تعبير يتماشى وما يريده الدعاة الإسلاميون وحركات التبليغ التي تعمل على نشر الإسلام في فرنسا والتي ترمي اللائكيين المسلمين بالكفر وهي العبارة التي رفض المجلس حذفها من عقيدته في النص المقترح.
وأمام رفض وزير الداخلية وعمدة جامع باريس الكبير هذه «التنازلات» تم استدعاء محمد موسوي ونائبيه في المجلس وهما شمس الدين حافظ وإبراهيم ألسي من قبل الوزير لجلسة تفاوض يوم السبت دامت أربع ساعات حيث قام فيها بتسليط ضغوطات لجعل ممثلي الديانة الإسلامية يقبلون بجملة المبادئ التي طالب بها الرئيس إيمانويل ماكرون. وخلص التفاوض إلى إقرار نص ميثاق في 8 صفحات يعدد المبادئ العامة التي يجب الالتزام بها من قبل الأئمة والتي تشكل جملة المبادئ الأساسية للمجلس الوطني للأئمة المزمع تكوينه في إطار إعادة هيكلة تمثيلية الإسلام في فرنسا.
وتم الاتفاق على ثلاثة مبادئ تعلقت بتحديد مفهوم «الإسلام السياسي» ونبذ التكفير وإقرار المساواة بين النساء والرجال. وأكد نص الميثاق على «مطابقة العقيدة الإسلامية لمبادئ الجمهورية بما فيها اللائكية وتمسك مسلمي فرنسا بمواطنتهم كاملة ونبذهم استخدام الإسلام لأغراض سياسية وتدخل الدول في ممارسة الشعائر الإسلامية.» ويؤكد النص على «مبدأ الكرامة الإنسانية التي تقود إلى المساواة بين المرأة والرجل، وحرية الضمير والديانة والتمسك بالعقل والإرادة الحرة ونبذ كل أنواع التمييز وكراهية الآخر.»وتم تضمين جملة في النص النهائي تقول: «إن الأعمال المناهضة لمسلمي فرنسا ولرموز عقيدتهم ترجع إلى أقلية متطرفة لا يمكن خلطها بالدولة أو بالشعب الفرنسي.» وإن تبقى بعض العبارات ضبابية لا علاقة لها بالقانون وبعيدة على وضوح النص الأولي للميثاق، فإن السلطات سوف تحرك بنود أخرى في قانون»الأمن الشامل» لردع أي تجاوز في المستقبل من قبل الساهرين على الشعائر الدينية.
الإسلاميون في الصدارة والمسلمون في التسلل
هذه الخلافات والانقسامات عادية في الجالية الإسلامية في فرنسا. وتعبر عن واقع «الإسلام القنصلي» الذي يلتزم بنفوذ وتوجهات الدول التي ينتمي إليها سواء أكانت متحالفة مع الإسلام السياسي مثل تركيا والمغرب وتونس أو متعايشة معه بدون مشاركته في الحكم مثل الجزائر. لكن واقع المسلمين في فرنسا، وهم أكثر من 5 ملايين نسمة، لا يندرج في هذا الصراع، بل إن غالبية مسلمي فرنسا من السلوكيين وغير السلوكيين ليس لهم صوت في الأجهزة التي تمثل الإسلام، أي المؤسسة الدينية التي يسيطر عليها الحركيون في الجماعات الإسلامية. فهي أطر تمثل فقط من يقوم بفرائضه في الجوامع والمساجد أما باقي الجالية فهي غير معنية بهذه «التمثيلية». وهم لا يفهمون قصر نظر السلطات الفرنسية التي لا تزال تعتقد أن الإسلاميين بكل تنوع انتماءاتهم قادرون على تغيير ما بهم ونبذ العقيدة التي أسسوها للسيطرة على عقول المسلمين وضمائرهم.
في الواقع، تبقى الحكومة الفرنسية مشدودة بقوانين البلاد اللائكية التي لا تسمح لها بالتدخل في الشأن الديني. وهي من جهة أخرى تواجه أخطار داخلية وخارجية جعلت من التراب الفرنسي منذ عقود مرتعا للجماعات الإرهابية ومجموعات الدعوة والتبليغ الذين نشروا الفكر الجهادي في صفوف الشباب الفرنسي ولا يزالون بدعم مالي وسياسي ولوجستي أجنبي وذلك في أغلب الحالات خارج دور العبادة. في هذه الظروف الجديدة ومع التصديق على قانون «الانفصال» سوف يكون في أيدي السلطات الفرنسية آليات جديدة لمقاومة التطرف الديني بما في ذلك غلق بعض دور العبادة وتتبع كل من ينشر خطاب الكراهية والتكفير. الميثاق الجديد يعتبر، في العموم وعلى نقائصه، لبنة جديدة في إطار تركيز «إسلام الأنوار» الذي تصبوا إليه الدولة الفرنسية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115