اذ لم تشهد بلاد العم سام في سجلها الانتخابي الحافل هذا الكم الهائل من الانتقادات والاتهامات المتبادلة التي وصلت الى حد تلويح المرشح الجمهوري والرئيس الحالي دونالد ترامب باللجوء الى المحكمة العليا في حال عدم فوزه . وهو تهديد يجعل كل السيناريوهات ممكنة في ظل التنافس الشديد حول الوصول الى البيت الأبيض .
فقد شهدت العديد من الولايات الأمريكية احتجاجات ومظاهرات غاضبة بسبب التأخر في اعلان النتائج الرسمية وبسبب الجدل الدائر حول التصويت عبر البريد. وأغلق المحتجون الطرقات في ولاية مثل نيويورك، ولوس أنجلوس، مما دفع الشرطة لتفريقهم بالقوة، واعتقال عدد منهم. وهو مشهد غير مألوف في أكبر قوة ديمقراطية في العالم . وتعكس هذه الأحداث الصاخبة الخصوصية الكبيرة التي تتمتع بها هذه الانتخابات واختلافها عن سابقاتها. فقد سجلت أعلى نسبة اقبال في تاريخ البلاد منذ 120 عاما، حسب مركز توقعات الانتخابات الأمريكية، إذ جرت عملية الاقتراع بمشاركة 160 مليون شخص من أصل 239 مليون.
غموض وجدل انتخابي
لقد كانت الساعات القليلة الماضية مليئة بالغموض والتشويق وأخذ مسار فرز الأصوات منحى مفاجئا، فقد تمكن بايدن من إحداث تغير جذري في ولاية ميشيغان التي تملك 16 مقعدًا في المجمع الانتخابي في حين تقدم ترامب بفارق قليل (أي 49.4 % مقابل 49 %) بعد فرز 94 % من أصوات الناخبين.
ويبدو جليا بأن ولاية نيفادا التي تتضمن 6 مقاعد ستكون هي الولاية الحاسمة وهي التي ستبوح بكل أسرار المعركة الانتخابية مع استمرار فرز الأصوات حتى ساعة متأخرة. والمفارقة ان مديري حملتي المرشحين أكد كل منهما فوز مرشحه فقد رجحت مديرة حملة بايدن أن يحقق مرشحها فوزا في ولايات ميشيغان وويسكونسن وبنسلفانيا وأكبر نسبة من الأصوات مما حصل عليه ترامب في انتخابات عام 2016، متوقعة فوز بايدن كذلك في نيفادا.
اما مدير حملة ترامب الانتخابية بيل ستيبين فقال إن الرئيس الأمريكي سيفوز في ولاية أريزونا بفارق 30 ألف صوت، على الرغم من التقارير التي تتحدث عن تفوق بايدن. وأوضح ستيبين أن التقارير الاعلامية التي تحسم النتيجة لصالح بايدن في أريزونا «هي تقارير مخطئة تماما»، مضيفا أن ترامب سيتفوق فيها بـ30 ألف صوت.
انقسام وشرخ مجتمعي وسياسي
وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية وما ستبوح به من أسرار، هناك أمر بات جليا وهو الانقسام المجتمعي والسياسي الكبير داخل الولايات المتحدة ، فالأصوات المتقاربة التي نالها كلا من المرشحين تؤكد بان أيا منهما لا يمتلك الغالبية المطلقة ولن يكون له دعم شعبي مطلق باعتبار ان الفائز سيدخل الى البيت الأبيض بفارق ضئيل من الأصوات ، وهذا ما يحمله أعباء أخرى في مواجهة الملفات الساخنة داخليا وخارجيا .
ويبدو ان هذا الجدل والانقسام الانتخابيين سيتحولان الى جدل قانوني خلال الأيام القادمة التي ستعقب الإعلان الرسمي عن النتائج، باعتبار ان ترامب لوّح باللجوء الى المحكمة العليا بكل ما يحمله هذا الخيار من تعقيدات . فقد أعلنت حملة ترامب أنها قدّمت التماسا قضائيا طلبت فيه إعادة فرز الأصوات في ولاية ويسكونسن، كما طلبت بوقف الفرز في ولايتي ميشيغن وبنسلفانيا. وقال مدير الحملة بيل ستيبيين في بيان له إنه تقدّم بالتماس قضائي لوقف فرز الأصوات في بنسلفانيا «بانتظار تعزيز الشفافية».
والجدير بالذكر ان جائحة كورونا طغت على أجواء الانتخابات من خلال اللجوء الى التصويت عبر البريد والذي يتم الفرز فيه ببطء. كما شهدت هذه الانتخابات أكبر نسبة مشاركة. فقد أدلى 160 مليون أمريكي بأصواتهم مع تقدير نسبة المشاركة بـ66,9 % مقابل 59,2 % في العام 2016
ويشار الى أنه في النظام الانتخابي الأمريكي، يُنتَخب الرئيس عبر الاقتراع العام غير المباشر، أي يقوم الناخبون في كلّ ولاية باختيار ناخبين كبار. ويحتاج المرشّح إلى 270 صوتاً من أصوات كبار الناخبين او المجمع الانتخابي للفوز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية من أصل 538.
وبغض النظر عن النتيجة سيخلق هذا الانقسام وضعية صعبة للرئيس الجديد الذي سيجد نفسه يتعامل مع برلمان غير متجانس ومنقسم في المجلسين الكونغرس او مجلس الشيوخ .
الملفات الخارجية
يبدو العالم اليوم أمام رؤيتين مغايرتين كليا لمستقبل النظام الدولي ودور الولايات المتحدة فيه وعلاقاتها الدولية شرقا وغربا، اذ طالما رفع دونالد ترامب شعار« مريكا أولا» ونفذ وعوده خلال عهدته الأولى بالانسحاب من بعض المنظمات الدولية الهامة والتخلي بالتالي عن التزامات أمريكا تجاهها.. صحيح ان السياسات الأمريكية الخارجية قائمة على مجموعة من الثوابت والتقاليد والتي لا تتغير كثيرا سواء مع الجمهوريين او مع الديمقراطيين ولكن لا جدال بان عهد ترامب كان الأكثر تطرفا وجنونا في عديد القضايا، وعاش خلاله العالم على وقع صراعات شديدة الخطورة. من الصراع الصيني الأمريكي الذي أخذ أشكالا متعددة وتفاقم أيضا مع جائحة كورونا مع اتهام ترامب لبكين وتحميلها مسؤولية تفشي الوباء في العالم . وكذلك الانسحاب من اتفاق باريس المناخي والذي تمّ رسميا اول امس ..اضافة الى العلاقات المعقدة التي خلّفها ترامب مع حلفائه الاوربيين ومع المنظومة الهيكلية التي تربط واشنطن بأوروبا أي حلف شمال الأطلسي ...مرورا بالعلاقة مع الخصم التقليدي الروسي والصراع الكبير الروسي الأمريكي على النفوذ والذي أعاد مجددا الاستقطاب والثنائية القطبية الى دائرة الضوء في عديد القضايا لعل أهمها منطقة الشرق الأوسط . فكل هذه الصراعات والسياسات المعقدة ستلقي بثقلها على العلاقات الدولية في انتظار شكل السياسات التي سينتهجها الرئيس البيضاوي الجديد تجاه هذه القضايا.
اما بايدن فقد وعد بتصحيح مسار الدبلوماسية الأمريكية ، والتزم الأربعاء الماضي أمام ناخبيه بالانضمام مجددا فور انتخابه إلى اتّفاق باريس المناخي الذي انسحبت منه بلاده رسمياً الأربعاء. وقال بايدن في تغريدة على تويتر «اليوم، غادرت إدارة ترامب رسمياً اتفاق باريس المناخي. في غضون 77 يوماً بالضبط ستنضمّ إليه إدارة بايدن»، في إشارة إلى 20 جانفي 2021 تاريخ بدء الولاية الرئاسية المقبلة. وكان بايدن قطع خلال حملته الانتخابية سلسلة من الوعود في مجال المناخ، من بينها، إقرار خطة بقيمة 1700 مليار دولار تهدف لبلوغ مرحلة الحياد الكربوني في الولايات المتحدة بحلول 2050. اما داخليا فقد صرح بايدن صراحة في جوان الماضي واثناء حملته الانتخابية بانه يعد ناخبيه بان تُشفى بلاده من جروحها قريبا ويقصد بذلك الاحتجاجات الأمريكية في الشوارع بعيد حادث وفاة جورج فلويد الذي تسبب بأزمة كبيرة وأعاد مسالة العنصرية تجاه السود الى الضوء مجددا .
في ما يتعلق بالعالم العربي وسياسة أمريكا تجاه قضاياه وخاصة القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الاسرائيلي، فهناك خطوط حمراء في الإدارة البيضوية لا تتغير مع تغير الرؤساء . ويبقى دائما «إسرائيل» أولوية قومية لا يمكن الجدال معها . ولكن يبدو ان هدايا ترامب لحلفائه وأصدقائه الإسرائيليين لا يمكن لأي رئيس آخر ان يقدّم مثلها ، فقد أعطى
ترامب وعده المشؤوم للاسرائيليين وقدم لهم القدس المحتلة واعترف بها كعاصمة للكيان المحتل ونقل سفارة بلاده اليها . وفرض صفقة القرن وأدخل العالم العربي معها في متاهة التطبيع المجاني مع «إسرائيل» والذي سيظل متواصلا في حال نجاح ترامب بكل ما مارسه من ضغوطات على أنظمة المنطقة للتطبيع . اما في حال فوز بايدن فالسؤال يتعلق بمشروع التطبيع ومآلاته وبأي شكل سينفذ وبمصير القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين في كل ما يحدث من صفقات.
وكذلك سؤال اليوم الأكثر الحاحا يتعلق بعلاقة الديمقراطيين بالإسلام السياسي في العالم العربي خاصة ان أمريكا في عهد باراك اوباما قدمت نفسها عرابة «الربيع العربي» الذي جاء بالاسلاميين الى الحكم في عديد البلدان العربية التي شهدت انتفاضات شعبية.
ومهما يكن من أمر، فالمؤكد أن نتائج الانتخابات الأمريكية ستحدد مستقبل وشكل العلاقات الدولية مستقبلا في العالم عامة وفي الشرق الأوسط خاصة في الملفات التي تلعب فيها أمريكا دورا مؤثرا وحاسما .