هذا الاعصار الفيروسي الذي لا يعرف حدودا ... الأمر الذي دفع عديد المنظرّين في علم الاجتماع وعلم السياسية والعلاقات الدولية الى توقع نشوء نظريات جديدة في «عالم ما بعد كورونا» ستؤثر بشكل كبير على مسار الإنسانية وأولوياتها ، بما في ذلك مسار الصراعات المندلعة في أكثر من مكان في العالم . من بينها المنطقة العربية المثخنة بحروبها خاصة في سوريا وليبيا مع تعدد الفاعلين والمؤثرين الدوليين والاقليميين في هذين الملفين . وتلعب تركيا دورا كبيرا في الأزمة السورية منذ اندلاعها عبر دعم القوى المعارضة لدمشق وسط اتهامات بتسهيل نقل المقاتلين الأجانب عبر حدودها الى الأراضي السورية، وهو ما جعل الظرف مؤاتيا لتزايد نشاط الجماعات الإرهابية في هذا البلد .
واليوم تواجه انقرة كما غيرها من دول العالم تداعيات هذه الجائحة العالمية مما زاد من الأعباء المستجدة على اقتصادها. فهل سيدفع هذا الفيروس أنقرة الى تغيير معادلاتها في الازمتين السورية والليبية من أجل التفرغ لمواجهة التداعيات الكارثية لهذا الفيروس داخليا؟.
أعباء جديدة
لئن كان الدور التركي في سوريا يعود الى بدايات اندلاع الأحداث السورية في مارس من عام 2011، فإن دورها في الازمة الليبية شهد تصاعدا مع تدخلها العسكري المباشر في طرابلس بعيد توقيعها الاتفاق العسكري بينها وبين حكومة الوفاق الليبي وهو ما أثار انتقادات واسعة داخليا وخارجيا .
ويرى الباحث السوري في الشؤون التركية خيام الزعبي لـ«المغرب» ان تركيا اليوم تجد نفسها أمام أعباء جديدة يعجز تحملها الاقتصاد التركي الذي شهد تقلبات كبيرة في الحركة التجارية وتعطل في القطاعات الصناعية والسياحية، مما أدى إلى تراجع سعر صرف الليرة التركية لأدنى مستوى أمام الدولار الأمريكي».
ويضيف بالقول :«مع ارتفاع حالات كورونا في تركيا بشكل كبير، تواجه تركيا ضغوطا على تصنيفها الائتماني، حيث تثير عمليات الإغلاق الواسعة لأنشطة وقيود على السفر مخاوف بشأن ركود عالمي محتمل، حيث يمكن أن يسبب هذا ضرراً كبيراً لتركيا خاصة بعد تراجع عملتها المحلية، مما يرفع تكلفة سداد على الديون المقترضة بعملات رئيسية مثل الدولار».
ويتابع بالقول :«تهدد خسائر أزمة كورونا ما يقرب من 10 ملايين تركي بفقدان وظيفتهم في جميع القطاعات، وخاصة قطاع البناء والتشييد، هذا إلي جانب 4.5 مليون عاطل، يضاف إلى ذلك تضرر القطاع الزراعي والثروة الحيوانية، وإمكانية انقطاع الإنتاج، ما يضع النظام تحت ضغط كبير، ويزيد الغضب الشعبي ضده. كما أن احتياطي النقد الأجنبي في البنك المركزي التركي هوى بأكثر من 7 مليارات دولار خلال الأسبوع الماضي، وفقًا لما كشفه التقرير الأسبوعي للبنك، وبحسب التقرير تراجع إجمالي احتياطي النقد الأجنبي إلى مستوى 65.14 مليار ، مقارنةً بـ 72.47 مليار دولار بالأسبوع السابق».
ويوضح محدثنا بأن أسباب انكماش الاقتصاد التركي وهبوط الليرة تعود إلى تقييد حركة الأشخاص من وإلى تركيا، ووقف الرحلات مع البلدان التي انتشر فيها فيروس كورونا، بالإضافة إلى انكماش السياحة كونها تعد أحد أهم مصادر الاقتصاد والعملة الصعبة لتركيا، فضلا عن تراجع التجارة الخارجية أي الطلب الخارجي وبشكل خاص الصادرات وإلغاء الكثير من المعارض التجارية وتخفيض الفائدة والاحتياطي الإلزامي والسياسة المالية التوسعية المتعلقة بزيادة الإنفاق الحكومي والدعم المباشر وتخفيض الضرائب والتي سوف تتخذها الإدارة الاقتصادية في البلاد لتفادي آثار كورونا السلبية على الاقتصاد خلال الفترة المقبلة.
فهذا الوباء جعل انقرة اليوم في وضع لا تحسد عليه وقد انتقد نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم وتركيزه على الأضرار الاقتصادية للفيروس على حساب صحة المواطنين. في هذا السياق يشير الزعبي الى أن الرئيس أردوغان يعيش حالة من الارتباك في مواقفه لفشل مشروعه في سوريا وليبيا، واتساع دائرة المعارضة داخل تركيا لهذا التدخل، والصدام مع الداعية فتح الله غولن وارتفاع معدلات البطالة والتضخم وسط تراجع قيمة الليرة التركية، ولخسارته الأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة، وانهيار طموحاته في تعديل الدستور وتحويل النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي على غرار النظامين الفرنسي والأمريكي» مؤكدا أن استهداف الأكراد في سوريا يحرم أردوغان من أصوات أكثر من 20 مليون كردي في تركيا، مبينا بأن كل هذه «المغامرات» ستؤثر سلبياً على شعبية أردوغان في تركيا، وبالتالي غرق سفينته في الانتخابات المقبلة عام 2023».
تراجع العمليات
لقد أعلنت تركيا أنها ستحد من تحركات قواتها في مناطق العمليات بسوريا بسبب وباء فيروس كورونا مع ارتفاع عدد حالات الإصابة والوفاة في تركيا.
وفرضت تركيا، التي تعتبر التاسعة على مستوى العالم في عدد الإصابات بفيروس كورونا، قيودا على تحركات السكان وأغلقت حدودها بالكامل تقريبا كما أغلقت الشركات. وقالت انقرة إن القوات المنتشرة في سوريا لن تدخل مناطق العمليات أو تخرج منها إلا بإذن من قائد الجيش.
يأتي ذلك في الوقت الذي لا تزال العمليات القتالية في أوجها في ليبيا . والمعلوم ان انقرة لعبت دورا كبيرا في الأزمة الليبية لصالح حكومة الوفاق في مواجهة المشير خليفة حفتر الذي اتخذ من شرق البلاد قاعدة له ويستمد شرعيته من مجلس النواب المنتخب العام 2014. فأي تراجع تركي في الملف الليبي سيكون لصالح حفتر المدعوم من حكومة شرق ليبيا ويقود حربا منذ أشهر للسيطرة على العاصمة طرابلس بدعم روسي ومصري، خاصة ان جهود وقف اطلاق النار تعثرت مع عودة العمليات العسكرية على تخوم طرابلس بين السراج وحفتر .
ويؤكد الزعبي بانه «إذ لم ينجح أردوغان في اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة لحماية الشعب من الانتشار السريع للفيروس في تركيا سيضع مستقبله السياسي على المحك، في ظل تعثر الاقتصاد المتهاوي الذي يعيش منذ أكثر من ثلاث سنوات أزمة حادة تعمقت بفعل العداءات التي خلقها أردوغان تجاه الدول الغربية ودول الجوار بالاتحاد الأوروبي وخوضه في أكثر من جبهة . معارك سببت خسائر عسكرية قاسية للجيش التركي لاسيما في معركة إدلب شمال سوريا وفي معركة طرابلس الليبية».
وإنطلاقاً من ذلك، يبدو أن تركيا حالياً على أبواب سيناريوهات عديدة تبعا لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في المنطقة ، خاصة ان العالم اليوم يتجه نحو بناء نظام عالمي جديد على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في أعقاب الخروج من أزمة كورونا.