و ودع البرلمانيون الأوروبيون في سترازبورغ 73 بريطانيا من زملائهم معلنين بذلك عن بداية تطبيق بنود «البريكست» التي تفرض مرحلة انتقالية بسنة إلى غاية 31 ديسمبر القادم تخضع فيه بريطانيا للقوانين الأوروبية و تتمتع في المقابل بالامتيازات المشتركة لدول الإتحاد لكن دون أن يشارك رئيس الوزراء بوريس جونسون في قمم و مجلس الإتحاد و دون أن يتمتع بممثل في المفوضية أو في إدارة بروكسل ، أي دون أن يكون له، خلال هذه السنة، رأي في سياسات الإتحاد الأوروبي.
بعد استفتاء جوان 2016 و تغيير 3 حكومات لبريطانيا العظمى و حل برلمانها، نجح بوريس جونسون أين أخفق سابقوه و البرلمان المنحل في «تحقيق البريكست». لكن تولي الحكم في 10 داونينغ ستريت يفرض على بوريس جونسون أن ينتقل من صورة السياسي المشاكس الباحث على السلطة ليدخل في جبة المسؤول الأول على السياسة البريطانية مع خروج المملكة المتحدة القانوني من الإتحاد الأوروبي يوم 31 جانفي 2020.
مرحلة انتقالية
المرحلة الانتقالية التي تمتد كل هذه السنة تبدو معقدة لأنها تكرس التفاوض الحقيقي على المسائل العالقة في الميادين الاقتصادية و شؤون الأمن المشترك والمخابرات و العلاقات بين الطرفين في ميادين الصيد البحري و الأدوية و الطيران و تبادل الطلاب و التزويد بالكهرباء و الغاز و باقي المسائل التي تم ضبطها في أكثر من 500 من اتفاق الطلاق.
من الناحية الإنسانية، عام 2020 لا يغير شيئا بالنسبة للرعايا المقيمين في بريطانيا أو في البلدان الأوروبية على أن يقوم الأوروبيون (قرابة المليون ونصف) بتسوية وضعيتهم للحصول على «الورقة الخضراء» التي تسمح لهم بالإقامة و الشغل في حين يقوم البريطانيون (أكثر من 4 ملايين) المقيمون في أوروبا بتسوية وضعيتهم حسب القوانين المختلفة في كل بلد. و لا يوجد تغيير بالنسبة للسياح من الجانبين خلال السنة.
لكن هذه المرحلة سوف تكون صعبة بالنسبة للمؤسسات التجارية و الصناعية حيث سوف تضبط فيها المعايير الجديدة للتبادل و الإستثمار. على وجه المثال الشركات الأوروبية المصنعة للسيارات في الجانبين مثلا تستخدم اليوم قطع غيار مصنعة في بريطانيا و في عدد من البلدان الأوروبية، تعبر بحر المانش في أكثر من 50 رحلة و يستوجب ضبط الرسوم الجمركية من عدمها لضمان تواصل الإنتاج و الحفاظ على مواطن الشغل في الفضاء الأوروبي و في بريطانيا. توجد اليوم، على سبيل المثال لا الحصر 3000 شركة فرنسية في بريطانيا و تقوم 30 ألف شركة بتصدير إنتاجها نحو بريطانيا بقيمة 12 مليار يورو سنويا.
في هذا الإطار، أوردت جريدة «ذي تايمز» اللندنية على صفحتها الأولى ليوم الجمعة 31 جانفي خبر أن الوزير الأول بوريس جونسون يعتزم التفاوض مع بروكسل للحصول على اتفاقية تبادل مع الإتحاد الأوروبي على شكل الإتفاق الحاصل بين بروكسل و كندا. وهو ما يمكن أن يسهل عملية التفاوض التي تبدأ رسميا في غرة مارس القادم و التي عمليا انطلقت بداية هذا الشهر على مستوى اللجان.
رهانات المستقبل
نص الاتفاق المبرم بين الطرفين عام 2018 و الذي تم تنقيحه عام 2019 يبين الخطوط العريضة و الميادين التي تم التوافق في شأنها على أساس أن تكون العلاقة بين الطرفين «واسعة و شاملة ومتوازنة» وهي عبارات لا بد أن تترجم إلى واقع مضبوط قانونيا. أوضح ميشال بارنيه كبير المفاوضين الأوروبيين يوم 26 جانفي ل «جريدة الأحد» الباريسية أن أوروبا ترفض أن يكون قربها «جار ينافسها في ميادين القوانين المتعلقة بالشؤون المالية و الاجتماعية والبيئية لأن المسألة تمس بملايين من مواطن الشغل». ففي حين تريد لندن «استرجاع سيادتها» على سياساتها الاقتصادية مع التمتع بالمشاركة في السوق المشتركة الأوروبية، ترغب بروكسل في ألا تتموقع بريطانيا كمنافس «غير شريف» مثل سنغافورا التي يعتبرها بوريس جونسون رمزا للنجاح بعد أن استقلت عن ماليزيا.
المشكلة الثانية المتعلقة بالمرحلة الانتقالية تتمثل في رغبة بوريس جونسون نهاية التفاوض آخر السنة بدون تمديد المرحلة في حين تجد أوروبا نفسها في وضع دقيق لأن المصادقة على أي اتفاق يأخذ وقتا طويلا. بعد أن يمر النص أمام مجلس العموم و البرلمان الأوروبي لا بد أن تتم المصادقة عليه من قبل برلمانات الدول الأعضاء بما في ذلك البرلمانات الجهوية بالنسبة للدول الفيدرالية مثل بلجيكا ، وهي عملية تستغرق عادة عدة سنوات.
في صورة عدم الاتفاق سوف يصبح سيناريو «الطلاق بدون اتفاق» واردا وهو بمثابة الكابوس بالنسبة لبروكسل. أن تدخل بريطانيا في مسار مستقل طليقة من كل التعهدات القديمة أصبح يخيف الزعماء الأوروبيين لما لتأثير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على قرار لندن خاصة أنه لم يخف نيته الإطاحة بالإتحاد الأوروبي الذي يمثل عقبة أساسية أمام النفوذ الاقتصادي الأمريكي. دعم واشنطن لن يكون فقط اقتصاديا بل، أخشى ما تخشاه العواصم الأوروبية ، أن يترجم إلى تغيير في العلاقات الدولية. جونسون وعد بتغيير الدبلوماسية البريطانية و بإدخال «أعمق تغيير منذ نهاية الحرب الباردة» من أجله «إعادة تأهيل موقع الأمة البريطانية في العالم». كلام يمكن أن يترجم نية تجسيد إستقلال القرار باعتبار أن المملكة المتحدة تمتلك السلاح النووي و أنها عضو دائم في مجلس الأمن. لكن المختصين في الشأن البريطاني يعتقدون أن العقيدة الدبلوماسية البريطانية تم ضبطها في القرن التاسع عشر اعتبارا لما قرره اللورد بالميرستون عندما قال :«ليس لنا حلفاء للأبد و لا أعداء دائمون. مصالحنا أبدية و من واجبنا أن نتبعها.» وهو ما يرشح أن تظهر الحكومة البريطانية خلال المفاوضات نوعا من المرونة التي تمثل ركيزة التمشي البرغماتي البريطاني.
فجر يوم جديد
عل العموم، اليوم الأول من دخول «البريكست» حيز التنفيذ يعتبر ، حسب ما ورد في صحيفة «دايلي مايل» البريطانية المدافعة على الطلاق من أوروبا، «فجر يوم جديد بالنسبة لبريطانيا العظمى» مع التنصيص بأن أوروبا تبقى صديقة في حين بريطانيا تصبح حرة و مستقلة من جديد بعد 47 عاما».هذا الانطباع ساد اغلب واجهات الصحف البريطانية المدافعة على «البريكست» مثل جريدة «ذي صان» التي اعتبرت أن «الزمن حان، بعد ثلاثين عاما من الصمود، أن يحقق الشعب البريطاني العظيم البريكست».
لكن بعض الصحف، التي عادة ما عبرت عن حرصها على البقاء داخل الفضاء الأوروبي أو عن اعتدالها في هذا الموضوع فقد اعتبرت ، مثل «دايلي تيليغراف» أن هذا اليوم « ليس نهاية بقدر ما هو بداية»، بداية سيرورة تاريخية جديدة لم تتحدد بعد معالمها. أما جريدة فايننشل تايمز» التي تعبر عن «السيتي» مركز الأعمال في لندن فقد نشرت على صفحتها الأولى ما يقول « بريطانيا العظمى تسلم و تخرج من الإتحاد الأوروبي بخليط من التفاؤل و الحسرة» وهو نفس الشعور الذي عبرت عنه جريدة «ذي انديبندانت» التي تساءلت «هل نرجع لهم يوما؟» أما صحف اسكتلندا فقد نشرت كلمات «إلى اللقاء» ملوحة بامكانية افلتحاق بالإتحاد مجددا في صورة تحقق الإستقلال المنشود ، رغبة عبرت عنها مجددا الوزيرة الأولى نيكولا ستورجن.
المرحلة القادمة سوف لن تفلت من التعقيدات الداخلية في صلب الإتحاد و لا من تقلبات المزاج عند بوريس جونسون. لكن التحديات جسام تحتم على كل الأطراف أن تعمل على تجسيد طلاق سلس يحمي المؤسسات في خدمة الشعوب. يبقى أن فشل بوريس جونسون سوف يعصف بمستقبله السياسي. أما نجاحه فسوف يكرس فكرة أن نجاح بريطانيا في الخروج من الإتحاد هو فرصة لبلدان أوروبية أخرى، غاضبة من الأداء الحالي، أن تمشي في نفس الطريق.