عندما قرر تغيير برنامجه البروتوكولي و زيارة أنهج القدس الشرقية مشيا على الأقدام كما قام بذلك الرئيس الراحل جاك شيراك عام 1996. و عبر ماكرون عن غضبه – كما فعل شيراك - تجاه رجال الأمن الإسرائيليين الذين أرادوا دخول مبنى كنيسة القديسة آن ، التي هي على ملك الدولة الفرنسية و تعتبر أرضا فرنسية مثلها مثل المقرات الدبلوماسية و ثلاثة مراكز دينية أخرى في المدينة العتيقة.
و احتل تدخل الرئيس الفرنسي الحاد ضد رجال الأمن الإسرائيليين المرافقين له في إطار حراسته اهتمام الصحافة الفرنسية التي سجلت الحادثة و بثت صورها عبر وسائل الإعلام. و أكد ماكرون في تدخله أنه متمسك ب «القواعد» و أنه لن يغيرها ، وهي تلك التي كرست «ملكية» كنيسة «القديسة آن» التي بنيت خلال الحملة الصليبية في القرن الثاني عشر و التي منحها الخليفة العثماني السلطان عبد المجيد عام 1856 للدولة الفرنسية. و كأن الرئيس الفرنسي بتمسكه بإشهار ملكية فرنسا لبعض المباني في القدس قد أراد إطلاق رسالة ضمنية للسلطات الإسرائيلية التي قررت ضم القدس و اعتبارها عاصمة لما يسمى ‘’الدولة الإسرائيلية’’ علما أن باريس لم تعترف بهذه الخطوة التي ساندها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
تغيير العقيدة الدبلوماسية الفرنسية
قبل الزيارة أكد قصر الإيليزي أن باريس متمسكة بحل الدولتين و أن الرئيس ماكرون – على خلاف باقي قادة الدول الأربعين القادمين إلى القدس - سوف يقوم بزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مقره برام الله. و كانت «حادثة القديسة آن» أوشكت على إعطاء انطباع أن الرئيس ماكرون يمشي على خطى الرئيس الراحل شيراك. لكن، في حقيقة الوضع، أبرزت اللقاءات مع كل من الرئيس الإسرائيلي ريوفان ريفلين و رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو ملامح تغيير نسبي في العقيدة الدبلوماسية الفرنسية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
فقد أكد الرئيس ماكرون لنظيره الإسرائيلي الذي التقى به في القدس - وليس في تل أبيب مقر السفارة الفرنسية و التي لا تزال تعتبرها باريس عاصمة للكيان الصهيوني - على فكرة أن «عدم الاعتراف بـ«الدولة الإسرائيلية» هو ضرب من ضروب معاداة السامية». وهو الموقف الفرنسي الجديد الذي كان قد عبر عنه ماكرون من قبل و الذي ترجمه حزبه في البرلمان بداية شهر ديسمبر 2019 إلى قانون يمنع كل انتقاد لإسرائيل. و ذلك بالرغم من معارضة جزء كبير من الصحافة و أهل الفكر ومن بينهم يهود و الجمعيات الأهلية وحتى عدد كبير من نواب حزب الرئيس ماكرون الذين تغيبوا على التصويت. و لم يحصل نص القانون سوى على 88 صوتا من جملة 303 نواب تابعين لحزب «الجمهورية إلى الأمام» في حين صوت 33 منهم ضد القانون و احتفظ 22 بأصواتهم.
و زاد الشعور بتغيير الموقف الفرنسي بعد اللقاء الحميم في القدس بين ماكرون و نتانياهو الذي عبر للتلفزيون الإسرائيلي أن تحادث مع «صديقه» ماكرون في شأن «إيران والعراق و سوريا و لبنان وتركيا وليبيا» . و أضاف نتانياهو: «اتفقنا على إقامة حوار استراتيجي بين إسرائيل و فرنسا من شأنه مواصلة التعاون بيننا حول مصالحنا المشتركة.» واعتبرت بعض وسائل الإعلام الفرنسي ذلك رغبة ماكرون في عدم التغيب عن «الحل النهائي» الذي وعد به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتعاون مع دول الخليج و الذي يهدف إلى حل النزاع نهائيا. لكن تشريك إسرائيل في التشاور حول الشأن الليبي يرمي إلى أبعد من ذلك و يندرج في مشروع إعادة صياغة التوازنات الإقليمية بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا من المنطقة.
عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية
زيارة ماكرون لرام الله حيث التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس جاءت لتكرس الانطباع أن «سياسة باريس العربية» في طريقها للتغيير. فقد اقتصر ماكرون على التعبير عن «الحد الأدنى الدبلوماسي» حسب عبارة أحد المحللين في باريس. فأوردت وكالة «وفاء» للأنباء أن الرئيس ماكرون أكد لمحمود عباس أن «فرنسا تدعم مفاوضات السلام بين الإسرائيليين و الفلسطينيين على أساس حل الدولتين». و كأن المفاوضات قائمة و الحل المنشود في الأفق.
وعبر الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن أمله أن «تقوم الدول الأوروبية و كذلك فرنسا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 1967 و عاصمتها القدس الشرقية. و في حين قامت بعض الدول الأوروبية بذلك فإن أهمها (فرنسا و ألمانيا وبريطانيا و إيطاليا و إسبانيا) امتنعت على ذلك. و لم يرد الرئيس ماكرون على هذا الطلب, بل اقتصر ، حسب وكالة «وفاء» الفلسطينية على تسجيل طلب محمود عباس بالتوسط لدى بنيامين نتانياهو للسماح للفلسطينيين الساكنين في القدس بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية و التشريعية ... التي لطالما رفض تنظيمها الرئيس الفلسطيني. في النهاية تبقى صور ماكرون وهو يتجول بين معابد الديانات الثلاث في القدس و يدخل مسجد قبة الصخرة من الباب الذي يدخل منه المسلمون.