خاصة أن الجانب الليبي تم تغييبه من أشغال المؤتمر و من طاولة الحوار الدولية و حتى من الصورة التذكارية النهائية. و اقتصر على المساهمة في مشاورات خلف الستار و بعيدا عن أعين الصحافة. لكن التاريخ لا يعيد نفسه بنفس الطريقة.فإن تشكل مؤتمر برلين الأول لمحاصرة نفوذ موسكو و «بلقنة» الجزء الأوروبي للإمبراطورية العثمانية فإن الثاني تقرر خلاله تقاسم النفوذ الاستعماري في إفريقيا والشرق الأوسط بين القوى العظمى على حساب إسطنبول. أما اليوم فالأوضاع العالمية تغيرت و توازن القوى كذلك بصورة ملحوظة جعل الدور الروسي يحتل مكانة قصوى في تحديد مصير المنطقة المتوسطية. و بان بالكاشف في كواليس المؤتمر أن تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 10 ديسمبر الماضي جعل حدا للتدخل العثماني الجديد و أجبر تركيا على القبول بحل غير عسكري للمسألة الليبية.
مخرجات قمة برلين جاءت في النص الختامي، في بنده الثالث، لتؤكد على ضرورة «التمسك بسيادة و استقلال ووحدة الأمة الليبية و حرمة ترابها» و العمل في إطار «خارطة سياسية يقررها الليبيون أنفسهم من أجل سلم دائم». هذا المبدأ هو أهم ما جاء في المؤتمر المنعقد تحت إشراف الأمم المتحدة. وهو يؤسس لكل الإجراءات الثانوية التي طالبت بها الدول المشاركة من أجل تقريب وجهات نظر الليبيين و العمل على تجسيد السلام على أرض الواقع عبر إجراءات عملية تحت رقابة الأمم المتحدة. وكانت كل البنود (مجموع 55 بندا)، والتي جمعت توصيات القادة المشاركين، تدور حول ترتيب الأوضاع من أجل دخول ليبيا في «مرحلة انتقال ديمقراطي» عبر انتخابات رئاسية و تشريعية تفرز برلمانا جديدا موحدا و حكومة وطنية لا يستثنى منها أي طرف.
الدور الروسي الحاسم
تشهد الأزمة الليبية تعقيدا حادا بتقاطع الصراعات الداخلية و الخارجية على أرض الواقع. فتدخل دول الخليج العربي و في طليعتها السعودية و الإمارات بمساندة مصرية في الشأن الليبي حول الصراع العقائدي بين الوهابيين و الإخوان المسلمين إلى حرب في المنطقة المغاربية. من ناحية أخرى حاولت إيطاليا و فرنسا التأثير على مجريات الأمور في طرابلس من أجل حماية تدفق النفط نحو أوروبا. أما الولايات المتحدة فركزت على قصف مواقع تنظيم داعش في الأشهر الماضية لتسهيل تنقل مقاتلي الجيش الوطني الليبي نحو طرابلس. أجندات مختلفة استغلتها موسكو لمساعدة المشير خليفة حفتر في توسيع رقعة نفوذه و الاستحواذ على مدينة سيرت حتى أصبح يتحكم - حسب ما ورد على لسان دبلوماسي فرنسي - في 80 % من التراب الليبي.
نجاح حفتر النسبي سببه الأساسي مساهمة فيلق من قوات «فاغنار» الروسية المكونة من مرتزقة تابعين لأحد الشخصيات القريبة من الرئيس الروسي و التي ساهمت، عبر مشاركة فريق من القناصة، في تغيير موازين القوى لصالح الجيش الليبي. لكن موسكو لا ترغب في فتح واجهة حربية جديدة في ليبيا لأنها لا تقدر عسكريا على المشاركة في واجهتين (سوريا و ليبيا). بل إستراتيجية بوتين تعمل على استغلال الوضع في الشرق الأوسط و إفريقيا من أجل فتح أسواق جديدة تمكنه من الصمود في وجه العقوبات المسلطة عليه من قبل أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية لإجباره على حل مشكلة أوكرانيا.
تشريك رجب طيب أردوغان من قبل بوتين في ضمان «حل سياسي» يعطي الإخوان المسلمين مكانا في المرحلة النهائية من التسوية السياسية الليبية مكن الرئيس التركي من حفظ ماء الوجه و كرس وضعه كشريك لموسكو في منطقة الشرق الأوسط. و نجح بوتين في تمرير «قرار وقف إطلاق النار» و كسب دعم المستشارة أنجيلا ميركل التي تساند التوجه السياسي في ليبيا. وأبرزت أشغال مؤتمر برلين والنقاشات الدائرة فيه أهمية الدور الروسي في إقناع الوفود بضرورة الضغط من أجل فرض سلام دائم في ليبيا.
غسان سلامة في الواجهة
لكن هذا التوجه الروسي لا يخلو من هشاشة بحكم تداخل المصالح و كثرة الخلافات بين المتدخلين الخارجيين في الشأن الليبي وانقسام الأوروبيين والغياب الملحوظ لبلدان الجوار. لذلك أصبح تكليف المبعوث الأممي غسان سلامة بالسهر على تطبيق توصيات القمة أمرا ضروريا. تحويل القرار إلى مجلس الأمن (البند 5) بالاعتماد على نص البيان النهائي و انطلاقا من برنامج في 3 نقاط يفتح الباب أمام التحرك الدولي الذي غاب في الأشهر الماضية.
من القرارات الهامة التي تمهد إلى مرحلة التحول الديمقراطي تشكيل لجنة عسكرية مشتركة (5 + 5) بين المتنازعين حفتر والسراج لضبط سبل وقف دائم للقتال. وسوف تنعقد آخر الأسبوع تحت رعاية أممية. ثم تقرر تعيين لجنة برلماني يشارك فيها 13 عضوا من برلمان طرابلس و 13 من برلمان طبرق ويتولى غسان سلامة اختيار 13 مشاركا من المجتمع المدني الليبي. و يجتمع هذا المجلس في مدينة جينيف السويسرية تحت رئاسة الأمم المتحدة من أجل تشكيل مجل رئاسة جديد يسهر على تحضير انتخابات جديدة تحت إدارة هيئة عليا مستقلة للانتخابات. و سوف تحسم كل هذه المواضيع في اجتماع قادم لمجلس الأمن.
كل هذه القرارات تبقى رهينة نجاح الأمم المتحدة في منع التدخل الخارجي، و الحال أن مقاتلين أجانب وقواتهم لا تزال ترابط في ليبيا و تشارك في المعارك الدائرة هنالك و أن الدول المشاركة تزود المقاتلين بأسلحة مختلفة الصنع ، ضاربة بذلك عرض الحائط كل القرارات الدولية. الرهان الثاني أمام غسان سلامة هو نزع سلاح المليشيات الذي يتطلب تشكيل قوة ردع أممية لم تتضح معالمها بعد. و في نهاية المطاف يبقى هذا التوجه متعلقا بالإرادة السياسية للدول المشاركة في مؤتمر برلين والتي عاقت إلى حد اليوم التوصل إلى حل شامل يجمع بين الفرقاء في ليبيا.